صحيح أن اليهود ظلوا متماسكين إلى حد كبير وانعزلوا عن بعضهم البعض في كثير من الأحيان بسبب المعاملة غير الودية التي تلقوها على أيدي مضيفهم. لكن الأمر لم يكن كذلك في الأصل. فقد أراد اليهود أن يعيشوا منعزلين عن جيرانهم بسبب دينهم. ويبدو أن هذا كان صحيحاً من موقفهم في تلك الأراضي التي كانوا يعاملون فيها معاملة حسنة. ولنأخذ مثالاً أو مثالين في العالم القديم، وقد ذكرت لهما أمثلة [تاسيتوس، إلخ]. ولنأخذ نفس الاتجاه في العصور الوسطى. ولنأخذ الجزيرة العربية في القرن الأول. فقد عاش اليهود هناك في الفترة المذكورة وفقًا للدين الذي صاغه التنائيم والأمورائيم ـ حفظ شرائع الطعام والأعياد، والصوم الأبيض العظيم والسبت. "ورغم أنهم لم يتمكنوا من الشكوى من أي شيء في هذا البلد المضياف، إلا أنهم كانوا يتوقون إلى العودة إلى الأرض المقدسة وينتظرون مجيء المسيح كل يوم... وكانوا على اتصال مباشر باليهود في فلسطين". ولنأخذ إسبانيا المغربية. في حين نسي المسيحيون الذين عاشوا بين المسلمين لغتهم الأم (اللاتينية القوطية)، ولم يعودوا يفهمون كتبهم المقدسة، وكانوا يخجلون من مسيحيتهم، كان اليهود الإسبان أكثر إخلاصًا للغتهم الوطنية، وكتابهم المقدس ودينهم القديم وقد انعكس هذا الموقف بوضوح في الشعر والفلسفة اليهودية في تلك الفترة، وربما كان أعظم ما يمكن أن يفخر به يهود العصور الوسطى. ففي وسط عالم عربي إسباني عاشوا فيه وتمتعوا باحترام مواطنيهم، كانوا "قوميين" بشكل صارم، أي متدينين؛ لقد استوحوا إلهامًا شعريًا من الآمال المسيحانية وكانوا ممتلئين بشوق لا يقهر إلى صهيون. ولا يحتاج المرء إلا أن يذكر الشاعر العظيم يهودا هاليفي، الذي تُعتبر قصائده "إلى صهيون" أسمى تعبير عن عبقرية الشعر العبري الجديد.

Werner Sombart / The Jews and Modern Capitalism

كان كيتا إيكي، المتطرف المتعصب الذي أثر على النسخة اليابانية من "الفاشية"، متعصباً لأفلاطون. كان كيتا وصديقه كازونوبو كانوكوجي ينتميان في الأصل إلى نفس الدائرة من المثقفين اليساريين المتطرفين غير التقليديين. ومن المرجح للغاية أنهما أثرا على بعضهما البعض بطرق ما. ومع ذلك، افترقا في النهاية (أصبح كانوكوجي من التيار الرئيسي، وأصبح كيتا العقل المدبر المزعوم/الزعيم الأيديولوجي لمحاولة انقلاب عسكري، حادثة 26 فبراير). شارك كيتا مع كانوكوجي في العديد من الأفكار نفسها وكان مثل زميله السابق الأكثر شعبية من أتباع  الوحدة الاسيوية . لكن على عكس كانوكوجي، الذي دافع عن تفوق العرق الياباني، لم يكن كيتا عنصرياً ودافع عن إدراج مختلف الشعوب الآسيوية داخل الإمبراطورية اليابانية على قدم المساواة. كما سافر بالفعل إلى الصين وحاول التحريض على الثورة هناك مع زملائه الصينيين.  كما اختلف كيتا عن كانوكوجي في أنه ظل في معظمه اشتراكيًا غير تقليدي. وبالتالي تبنت اشتراكيته "الأفلاطونية" فكرة الديمقراطية الاجتماعية. في كتابه  (نظرية السياسة الوطنية والاشتراكية الخالصة) المنشور في عام 1906، رفض الماركسية باعتبارها غير متوافقة مع اليابان وشرق آسيا، ودعا بدلاً من ذلك إلى نسخة جديدة من اشتراكية الدولة / الاشتراكية الوطنية التي من شأنها أن تحقق تمامًا يوتوبيا أفلاطون.

H. J. Kim & N. Horesh / Plato in East Asia?

عندما شرعت اليابان في حملتها التحديثية السريعة في أواخر القرن التاسع عشر في أعقاب إصلاحات ميجي، واجهت النخبة الفكرية في شرق آسيا لأول مرة الكلاسيكيات اليونانية باعتبارها مادة للدراسة والتحليل الجاد. وكان العمل الكلاسيكي الذي أذهل هذه النخبة اليابانية قبل كل شيء هو جمهورية أفلاطون.  وقد استكمل كيمورا تاكاتارو (1870-1931) ترجمة كتاب جمهورية أفلاطون بالكامل إلى اللغة اليابانية، كما ترجم كيمورا لاحقًا حوارات أفلاطون في خمسة مجلدات إلى اللغة اليابانية بين عامي 1903 و1911. وفي البداية كان يُنظر إلى أفلاطون باعتباره رمزًا ثقافيًا/فكريًا للحضارة الغربية، ولكن سرعان ما أصبحت الجمهورية من الكتب التي يجب على العناصر المتطرفة بين النخبة اليابانية التي كانت ترغب في تغيير النظام السياسي والاجتماعي القائم في اليابان بشكل جذري قراءتها. وقد اعتبر هؤلاء المتطرفون اليابانيون كتاب جمهورية أفلاطون بمثابة الأساس التأسيسي للإيديولوجيات الاشتراكية والشيوعية الغربية.

وبالتالي فقد تم تصور النص بشكل متزايد باعتباره المخطط الأساسي للثورة الاجتماعية.  لقد التهم مثقفون متطرفون مؤثرون للغاية مثل كانوكوجي كازونوبو (1884-1949) وكيتا إيكي (1883-1936) فلسفة أفلاطون وطوروا مزيجًا خياليًا من الاشتراكية والأفلاطونية والقومية المتطرفة التي تحولت إلى نسخة يابانية غريبة من الاشتراكية الوطنية. وعلى عكس التغطية السطحية للكلاسيكيات اليونانية بين المثقفين الصينيين، فإن ما نراه بين هؤلاء المتطرفين اليابانيين هو دراسة متعمقة واستيعاب للأفلاطونية لا مثيل لها في الدوائر الفكرية الأخرى في شرق آسيا. ما تصوره كانوكوجي على وجه الخصوص هو نظام سياسي واجتماعي جديد من شأنه أن يشمل "النخبوية والجماعية والدكتاتورية والتخطيط الاقتصادي"، والذي من شأنه بدوره أن يحول اليابان إلى "دولة اشتراكية".  لقد أصبحت هذه الرؤية "الأفلاطونية" الديستوبية للدولة الاشتراكية الوطنية "المثالية" (التي مزجت بين الأفكار المتطرفة من أقصى اليمين واليسار السياسي) سائدة في اليابان قبل الحرب، وبسبب النفوذ الهائل لليابان في شرق آسيا خلال هذا الوقت ألهمت "التكيفات" في دول شرق آسيا الأخرى.

Hyun Jin Kim / Plato in East Asia

أن جدعون (احد انبياء بني اسرائيل) كان شخصية مفضلة من شخصيات الكتاب المقدس في عيون البيوريتان الإنجليز، كما كان بالنسبة لجون كنوكس والإصلاحيين الأستكتلنديين، الذين استخدموا مثاله لتبرير مقاومتهم للملكة الكاثوليكية مارى ملكة اسكتلندا. ومن الناحية التنميطية كان المديانيون يساوون الكاثوليك ؛ بسبب عبادتهم المفترضة للأصنام (فقد كان الكالفينيون يعارضون بشدة كل أشكال التصوير الديني وعبادة الآلهة المزيفة). لقد سحق جدعون المذبح الوثني، وكسب الجماهير حوله بالتبشير، كما أنه قد هزم العدو بعصبة ضئيلة من الرجال المخلصين باسم الرب، وقد راق هذا بشكل كبير للغاية لكرومويل.

وفي معركة مارستون مور الحاسمة سنة 1644 ، كان مصير المعركة معلقا حتى قام كرومويل على رأس قواته المتعصبة بمهاجمة خطوط الملكيين وهم يصيحون "سيف الرب وسيف جدعون " ونجحوا في اختراق صفوفهم . كانت هذه لحظة حاسمة في مصير الملك - هزيمته الكبرى الأولى - وفى صعود كرومويل إلى سيطرته النهائية على قوات المحافظين الملكية. وبالنسبة للعقلية البروتستانتية في القرن السادس عشر أو السابع عشر كانت قصة جدعون تناسب موقفهم تماما . وتخلى جدعون عن دور الملك كان أيضا مصدر إلهام لقرار كرومويل الشخصي بألا يتوج ملكا، ولكن بأن يحكم انجلترا «باسم الرب» .

وتماما مثلما كان انتصار جدعون على المديانيين هو في الحقيقة انتصار الرب كذلك كانت انتصارات كرومويل على قوات الملك هي انتصارات الرب. وبعد معركة ناسبي سنة 1645 كتب إلى وليام لينتهول : هذا النصر ليس سوى يد الرب؛ وإليه فقط يعود المجد، حيث ليس لأحد أن يشاركه .

كبيفورد لونجلي / الشعب المختار ج2

"نتيجة لتطورها الخاص، يحق للدولة أيضًا أن تبدأ حربًا ضد تلك الدول التي تحتل مستعمرات كبيرة بشكل غير قانوني وتتجاهل الطريقة السماوية للتعايش بين البشرية جمعاء.

للأمة الحق في بدء الحرب، ليس فقط للدفاع عن نفسها، بل أيضًا من أجل الأمم والأعراق الأخرى التي تقمعها قوة غير مبدئية."

Kita Ikki / An Outline Plan For The Reorganization of Japan

ان الحكومة الصينية المعاصرة تحافظ على صلاتها بكيتا، حيث تأثرت إصلاحات دينج شياو بينج الاقتصادية بشكل كبير ببارك تشونغ هي والنموذج الاقتصادي الياباني الذي ألهم اقتصادات النمر الآسيوي. كما قام البيروقراطي الصيني وانج هونينج بدمج العديد من أفكار كيتا في الصين، وتوجيه الأمة نحو تأسيس سلام صيني من خلال مبادرات دولية مثل مشروع الحزام والطريق، الذي يذكرنا بجهود جمعية التنين الأسود. وقد أعرب وانج عن ازدرائه للسياسة التعددية الحزبية وابتعد عن الماركسية، ودعا بدلاً من ذلك إلى نظام شركاتي.

كما لا يزال كيتا شخصية مثيرة للجدل في التاريخ الياباني. فقد كانت أيديولوجيته المتطرفة تهدف إلى خلق اليابان أقوى وأكثر عدالة من خلال مزج القومية والاشتراكية والعسكرة لمعالجة قضايا مثل التفاوت الاقتصادي والإمبريالية الغربية. ألهمت أفكاره العديد من الناس وشكلت تهديدًا للقوى القائمة في الاتحاد السوفيتي. أطلقت القوى الاستعمارية الغربية واليابان نفسها حملة تضليل لقمع أفكاره وتشويه سمعته. في الحقيقة، سعى كيتا إلى تفكيك الرأسمالية ورأى نفسه بوذيًا شموليًا يستخدم اليابان كوسيلة للتنوير العالمي، مما يعكس رؤية فيخته لألمانيا. إن سعيه إلى الخلاص البوذي العالمي يضعه كشخصية مهمة في الفاشيين اليابانيين / اصحاب الموقف الثالث، إلى جانب آخرين مثل أكيرا كازامي إلى سيغو ناكانو.

أحد أهم جوانب فكر كيتا هو التأثير الواسع النطاق لبوذيته. على عكس الشنتويين الشووا في عصره، الذين كانوا يعارضون الاشتراكية بشكل عام، اعتنق كيتا بوذية نيشيرين، وهي شكل من أشكال بوذية الماهايانا، أو بوذية "المركبة العظيمة"، والتي شجعت بشدة العمل السياسي والتنظيم للحرب القادمة العظيمة التي تنبأ بها نيشيرين. هذا جعل كيتا أكثر انفتاحًا على الاشتراكية ووجهات النظر المتنوعة من الشنتويين. تختلف بوذية كيتا عن بوذية ثيرافادا، أو "بوذية الكبار"، في أنها تركز على البوديساتفا والمساعدة الجماعية في تحقيق النيرفانا. يتماشى هذا الشكل من البوذية جيدًا مع الاشتراكية بسبب جوانبها الجماعية. ومع ذلك، توجد استثناءات، مثل الاشتراكيين البورميين تحت قيادة ني وين والاشتراكيين الفاجرايانا تحت قيادة الدالاي لاما.
كما لعبت البوذية النيشيرينية التي تبناها كيتا دوراً في صياغة علمه الإسخاتولوجي أو كيف نظر إلى دورة التاريخ. ومثله كمثل ماركس، كان كيتا يعتقد أن التاريخ يشهد تقدماً. ولكن اختلف معه في تفسيره البوذي للتاريخ الدوري. فقد اعتقد كيتا أن الديمقراطية الاجتماعية التي كان يعتزم تنفيذها سوف تخدم كأفضل أرضية انطلاق للناس لتحقيق النيرفانا وأن الحفاظ على هذه الحالة من شأنه أن ينتج أكبر عدد من البوديساتفا لتقريب الناس من النيرفانا. وكان هذا التفكير في مزج البوذية بالماركسية يعكس البوذية النقية على نحو يعكس معتقدات مجتمع الرهبان المحاربين الاشتراكيين الزراعيين السابقين في اليابان والذي كان يسمى إيكو إيكي.

إذا كانت نظرة القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، تسودها بشكل اساسي الاتجاهات والطرق التاريخية ، وبهذا نقول أن الداروينية بيولوجية تاريخية ، والفرويدية علم نفس تاريخي ، فان القرن العشرين هو عصر السوسيولوجيا . في السوسيولوجيا يعتبر ماكس فيبر قديسا انه « الأب المؤسس» المعترف به للعلم . إنه شخص لا يشكك به ، ولا يستخدم استخداما وانما يقدم له الولاء حتى منتقدوه من امثال هربرت ماركوز يقعون احيانا تحت تأثيره . في نظر كثير من السوسيولوجيين والعوام فانه سوسيولوجي من الدرجة الأولى ، من الصعب التفكير بنظير له : مارشال أو كينز في الاقتصاد ، مالينوسكي اورادكليف او براون في الانتروبولوجيا ، بلانك او اينشتاين في الفيزياء ، هي بالطبع ، اسماء كبيرة فى مواضيع اختصاصها . وقد ينتعش الطالب أو الباحث أو المهني بقراءتهم ، أو قد تتوسع مداركه عندما يلجأ اليهم ، ولكن اعمال هؤلاء غربلته علومهم وامتصتها ، ولكن فيبر رجل من نوع آخر لقد سميته ساحرا وهو كذلك ، حاضر حي السوسيولوجيين المحترفين وسواد المشتغلين بالسوسيولوجيا ، ومرجع حي لم يستنفد بعد . قد نجد نظيرا له في شخص معاصره الفرنسي العظيم دوركهايم ، ولكنهما عمليا كانا مختلفين جدا . بالنسبة لي، حيث يعتبر دوركهايم سوسيولوجيا عظيما ، فانني اعرف جيدا أن دوركهايم في حكم الميت واصبح احد احداث تاريخ العلم الذي انتمي اليه ، ويصح هذا القول بالنسبة لمهنة السوسيولوجيا كلها . ولكن بالنسبة لفيبر فهو الآن فقط يوضع في مكانه الحقيقي.

دونالد ماكري / ماكس فيبر