____________________
كتاب «تخريج مئتَيْ وجْهٍ من المعاني في كلمةٍ واحدةٍ من بيتٍ واحد». لأبي عبد الله مُحمَّد بن عبد الله الخطيب الإِسْكافيِّ (٤٢٠ه) رحمه الله تعالى.
وهو جُزْءٌ لطيفٌ مستطابٌ مُعْجِبٌ، يدلُّ على سَعة علمه -رحمه الله- بمذاهب العرب وأساليبها وحياتها.
وذلك أنَّه سُئل عن معنى (بِيضٌ مَفَارِقُنا)، في قول الشاعر: «بِيضٌ مفارِقُنا تغْلِي مَراجِلُنا * نأسوا بأموالِنا آثارَ أيدينا»، فذكرَ فيه وجوهًا تناهز العشَرة، فاستُكثِر ذلك، ثم سُئل استقصاءَ جميع ما تحتمله هاتان اللفظتان في هذا التركيب على مذاهب العرب، فأملى هذا الكتاب، وذكر فيه مئتَيْ وجهٍ وثلاثةَ أوجُهٍ، وحرَص أن يذكر مع كلِّ معنًى نظيرَه من أشعار العرب. وإنَّك لتَعْجَب من واسع روايته وبديع استحضاره!
قال أبو جعفر الرُّؤَاسِيُّ (١٨٧ه)، في الإمام أبي عَمْر بنِ العَلاء المازنيِّ (١٥٤ه) رحمهما الله: «وكان أبو عَمْر ممَّن حسَّن اللهُ عِلْمَه وفَهْمَه».
نقلَهُ أبو عُبَيد الله المَرْزُبَانيُّ (٣٨٤ه) في «المُوشَّح».
اللّٰهُمَّ اجعلنا ممَّن حسَّنت علمه وفَهْمه.
قال:
وإني من القوم الذين همُ همُ
إذا ماتَ منهم سيِّدٌ قام صاحبُهْ
نجومُ سماءٍ كلما غابَ كوكبٌ
بدا كوكبٌ تأوي إليه كواكبُهْ
أضاءت لهم أحسابُهم ووجوهُهم
دجى الليل حتى نظَّم الجِزْعَ ثاقبُهْ
وقال آخر:
إذا مُقرَمٌ منا ذَرَا حَدُّ نابِهِ
تخمَّطَ فينا نابُ آخرَ مُقرَمِ
وقال طفيل الغنوي:
كواكبُ دَجْنٍ كلَّما انقضَّ كوكبٌ
بدا منهمُ درٌّ مُنيرٌ وكوكبُ
وقال آخر:
إذا قمرٌ منا تغوَّر أو خبا
بدا قمرٌ في جانب الأفق يلمعُ
وقال غيره:
خلافة أهل الأرض فينا وراثة
إذا مات منا سيِّدٌ قام صاحبُهْ
وقال آخر:
إذا سيد منا مضى لسبيله
أقام عمودَ الدين آخرُ سيِّدُ
وقال عبد الملك الحارثي:
إذا مات منا سيد قام سيد
قؤولٌ لما قال الكرامُ فعولُ
وقال رؤاس بن تميم:
إذا ماتَ منهمْ عامرٌ عَمَرَ ابنُه
مكارمَ بُنيانِ الكرامِ الأكابرِ
وقال آخر:
وليس يهلكُ منا سيِّدٌ أبدًا
إلا افتلَينا غلامًا سيِّدًا فينا
وقال زياد الأعجم:
إذا ماتَ منهم سيِّدٌ ودِعامةٌ
بدا في رِكاب المجد آخَرُ صالحُ
«عاش النَّمِر بنُ تَوْلَب -رضي الله عنه- مئتَيْ سنة، وخَرِفَ وأُلقيَ على لسانه: انحروا للضيف، أعطوا السائل، اصبَحوا الراكب». الخزانة.
«ويا جُمْلُ كم من ليلةٍ تحسبينني
رقدتُّ، ومأقي العين بالدمع سافحُ
وكم شاقَني -والليلُ مُرْخٍ رِواقَه-
سنا بارقٍ من نحو أرضِك لائحُ».
وسُئلتُ عن بيتٍ يصلُح أن يوضع على دفتر التخرُّج.
فقلتُ: والله لا أستحضر شيئًا مُعيَّنًا في هذا المعنى، لكنَّ ذلك على حسب المعنى الذي تريده أنت، فإن كانت حالتك أنك كابدتَّ الجهد والمشقَّة في دراستك حتى تخرَّجت، فلك أن تتمثَّل بقول حاجر بن عوف الأزدي:
صَلِيتُ بغَمْرةٍ فخرجتُ منها
كنصْل السيف مُختضِبَ الغِرار!
أو كانت حالُك أنك كنتَ ماضيَ العزْم، نافذَ الهمِّ، ألوى المريرة، أخَّاذًا بالحزْم والجِدِّ في دراستك، تمثَّلت بقول ابن هانئ:
ولم أجدِ الإنسانَ إلا ابنَ سعْيِه
فمن كانَ أسعى كان بالمجدِ أجدرَا
وبالهمَّة العَلْياء يُرقى إلى العُلا
فمن كان أرقى همةً كان أظهرا
ولم يتأخَّرْ من يريدُ تقدُّمًا
ولم يتقدَّمْ مَن يريدُ تأخُّرَا
وإذا كان المعنى الذي تريده إظهار الغبطة بنَجاز ما تعبتَ من أجله قلتَ:
من بعد أيَّام المشقَّة والعَنا
قرَّ الفؤادُ وقرَّتِ العينانِ
ويجوز رفع العينان، على لغةٍ لبعض العرب، وعليه ما أنشده الآمديُّ في المؤتلف والمختلف لأبي بيهس رؤبة بن العجَّاج بن شدقم الباهلي:
فالنومُ لا تطعَمُه العَيْنانُ
من وخْز بُرْغوثٍ له أسنانُ
وإن كان مقصودك حمدَ الله على ما أولى به فقل:
الحمد لله حمدًا لا انقطاعَ له
فليس إحسانُه عنَّا بمقطوعِ
أو كانت حالك أنك بلغتَ أعلى المراتب، وحُزتَ أسنى الدرجات، تمثَّلتَ بقول القائل:
غايةُ مجْدٍ رُفعت، فمَن لها؟
نحن حَويناها وكنَّا أهلَها
لو أُرسِل الرِّيحُ لجئنا قبلَها!
أو كان شأنك أن أمورك كانت تمشي بالتوفيق والبرَكة، من غير عَناءٍ منك وكبَد، قلتَ:
فللّٰهِ دَرِّي يومَ أدخلُ ساحةً
تلوحُ بها الأهوالُ، والموتُ يَخْفِقُ
وأدخُل لا درعًا لبستُ ولا لها
حملتُ سلاحًا، غيرَ أني مُوَفَّقُ :)
وهكذا، والله أعلم.
ما أنس من مُعييات لا أنس أنها لو كانت في زمان غير الزمان لحُرِّم اللحم ومُنع الإغفاء ورُفعت السُّتر ولم يُدَّهن بدهان ولم يُغسل رأس من جنابة، تحمُّلًا لثقل الثأر وما هو بالهون وتجشُّمًا لكسر زهو الصائل وقمع طغيانه حتى يعمَّ الأمن ويشمل دار الآل والأهل برغم أنف من رغم، وبتعفُّر خدِّ من تحاقر. لكنه أمر الإله في كونه، وما كان وعزَّته إلا حكيمًا في تدبيره عليمًا بالمصلح لعباده.
حسبنا الله ونعم الوكيل، هو مولانا ونعم النصير.
مَسْلاة مهموم، وتَعْزُوَة شَجِيٍّ..
لأبي ثابت محمد بن عبد الحيِّ الخزرجي.
«إنما الدنيا كأهل دارٍ متى نَفَرَ أوَّلُهم تلاحَقُوا، فلم يبقَ بها أنيس، أفما تعلمُ أن الركبَ وُقوفٌ، مَن أتَتْهُ دابَّتُه ارتحلَ، غيرَ أن الإياب إلى الله!
أوَما تعلمُ أننا رهائن بأنفسنا، فكيف لا نسعى في فكاكها! أوَما تعلم أننا مُنتدِبون لحَلْبة التشمير، فما الوَنَىٰ والتأخير؟ فنشدتُّك اللهَ تعالى ونفسي في التشدُّد والتخوُّف.
فما نحن إلا مثلهم غير أننا
أقما قليلًا بعدهم وتقدَّموا»
أبو عثمان.
____________________