السلام عليك يا أُمي، السلام على قبرك وعلى روحكِ الكريمة المُكرَّمة.

اشتقتُ إليكِ كثيرًا..اشتقت إلى وجهك الملائكي وصوتكِ البريئ، اشتقت إلى دعواتكِ التي لم تنقطع عنا طوال فترة حياتك.

أتعبتنا الحياة كثيرًا بعدكِ يا جميلتي، كل شيء هنا أنهكنا..أذكر عندما كنت دومًا تدعوا لي ولأخوتي هذه الدعوة «الله يجعللكم في كل طريق رفيق وفي كل خطوة سلامة»، كنت آنذاك لا أدرك حقيقة هذه الدعوات.

لكنني الآن ألامسها يا أمي في أيامنا القاسية، ألامسها في كل دروبي المُظلمة هذه التي أسلكها والله..السلام عليكِ يا أمي وعلى قبركِ وعلى روحك المُعلَّقة في أعلى الفردوس إن شاءالله.

تم مساعدة الأخت من أخٍ كريم، اسأل الله أن يكتب له أجرهم وأن يجزيه عنا خير الجزاء.

وأنا صغيرٌ كنت أسمع كثيرًا أن الرجل لا يبكي..وكُنت إذا شاهدت في جنازةٍ أو في مكانٍ ما رجل يبكي يضيق صدري حد الاختناقِ وأبكي على بكائهِ حتى وإن لم أكن أعرف ذلك الرجل من قبل. كبرتُ ورأيتُ مدينةً كاملةً تبكي، رجالها ونساءها وأطفالها، بيوتها وخيامها وأحجارها وركامها وأشجارها، طُرقاتها وأرصفتها وأزقتها، لم يضق صدري هذه المرة، شاركت كُل شيءٍ يبكي بكاءه، وأدركت أن الرجال تبكي يوم أن تفوق الهموم على أكتافها الجبال.

ناجى أعرابيٌّ ربَّه، فقال:

إليكَ بكَ أتوسّلُ، ومنكَ إليكَ أفِرُّ.

علِموا أولادكم أن الاِحتلال بِذرة عَفِنة..وأن العرب سقوها بكرامتهم حتى ترعرعت في بلدٍ تُسمى فِلسطين. عَلِموهم ان كُل هذه الأرض لنا دون أن ينقصها ذرة ترابٍ واحدة.

بالمناسبة..هذه المساحة الصغيرة جدًا قد أُلقيَ عليها من المُتـفـجرات ما لم تحتمله هذه المساحات الشاسعة من الدول عندما تريدون المُقارنة.

مُنذُ بدايةِ الحَـرب وهُم يساعدوننا على التأقلم مع المأساة دون أن يحاولوا انهاءها..أرسلوا لنا الخيام حتى نعتاد عيشة الطُرقات والشوارع بعيدًا عن بيوتنا والأماكن التي نزحنا منها. أرسلوا لنا الأكفان ولم يوقفوا الموت، وبعثوا الضمادات ولم يوقفوا النزيف..أرسلوا لنا الطعام ولم يقتلوا المجاعة، أرسلوا لنا الأضواء البديلة التي لم نرى منها شيء ولم يُحاولوا حل مشكلة الكهرباء. نحن الشعب الذي أقسم الجميع على فنائه..وبدمه وجراحه وجوعه وموتهِ ونزفهِ أقسم على الجميع بالبقاء.

ها أنا أشتم رائحة الدجاج والحَمَامَ المحشي من شوارع مصر، وتخترق حلقي رائحة المنسفِ من شوارع الأردن، وأرى الخِراف المشوية المحشية في شوارع قطر والبحرين والإمارات، وتذيب قلبي وتعتصره رائحة الكبسة السعودية..تختلط روائح الأطعمة العربية في أنفي ولا أشَتَم إلا رائحة اللحم البشري المشوي في شوارع غزة، ويقرصنا الجوع على الأطْبَاقِ الفارغة.

في سورة الكهف، لم يكن خرق السفينة ولا قتل الغلام ولا بناء الجدار إلا حفظ للنفس والممتلكات والمال. فأما قتلنا وأما قصفنا وأما تشريدنا..يا رب صبرًا على ما لم نُحِط بهِ خُبرا.

خبر عادي..المجاعة ضربت الجنوب من جديد واستفحلت في الشمال.

انتهى الخبر.