إلى صديقتي حَليمة.

كَيف حالُ قلبك في هذا الشتاء؟
لم نتحدث منذُ فترة لا بأس بها، ولم تصلني رسائلك كُنت قد أخبرتُك أنّني أودُّ الكتابة عن ما حدثتني عنه وطالت المدة يا صديقتي إلّا أنّني أوفي الآن بما قد قطعته، لكن كيف لي أن أصيغَ حروفًا تعادل بضع الذي كتبتهِ لي؟
كانت رسائِلك مليئة بالوجع الذي لا أعرفُ كيف كان عليّ تخفيفه، وما فائدة كلامي معكِ وكيف له أن يخفف عنكِ بعض الألم، أرسلتِ لي هكذا فجأة أنّك تبكين لأن شيئًا حلوًا تشتهيه ولا تجديه، هل بإمكان الحروف التي أرسلتها أن تتحول إلى سكاكر؟ ولكن ماذا تراي فعالة إلّا الردُّ عليكِ محاولة تخفيف هذا الشعور الذي يعتريكِ، كم كُنت تشتهين كوبًا من الشاي مع السُكر لكن حتى هذه أخبرتني أنّك لا تجدينها، كنت أشعر أن كأس الشاي ينظرُ إليّ بشفقة وتأنيب ويقولُ لي: لماذا تشربين؟ حليمة تريدُ شايًّا، كأن الحياة أصبحت جريمة يا حليمة وسط هذا الموت القاتل!

أتمنى أن تكوني بخير يا صديقتي، وأن تكوني كما عهدتك تنتزعين الأمل رغم صعوبة الأمر، أتمنى أن تنتهي هذه الحرب، وإن نشربَ شايًّا على بحر غزّة، من يدري لعل حلمنا يصبح حقيقة، ستنتهي الحرب يا حليمة، وكما كُنت تقولين أن اللّٰه اصطفانا لنكون من أهل هذه البلاد، كوني بخير يا حليمة، ربما اقترب النَصر، واقتربت نهاية هذه المُعاناة المهلكة، ستمضي هذه الأيام الصعبة مهما طالت وستجلسين يومًا إلى جوار أبناءك وأنت تمسكين الشاي المُحلى بالسكرِ بيدكِ وتخبرينهم عن أيام الحرب التي اخترعتي فيها وسيلة لتحلية الشاي بإضافة الفانيلا إليه، وستخبرينهم أن صديقة لكِ من الشقِّ الآخر من الوطن اقترحت عليكِ تجربة القرفة ففيها حلاوة ظاهرة، ستضحكين وتخبرينهم أن الفانيلا والقرفة كان مذاقُهما سيئًا لكن ماذا نفعل ستخبرينهم أن يحمدوا اللّٰه كثيرًا إذ لم يكونوا قد عاشوا أو شهدوا مثل هذه الحرب المَجنونة.

«بلاش يابيه. خليها عليَّ هذه المرة»
وبعض الناس يرى أن هذه العبارة هي تعبير عن "النفاق". ولكني أجدُ مثل هذا التفسير سطحيًا، فقد حللتُ هذه العبارة، ووجدت أنه، في واقع الأمر، يقول: "برغم أنّني أعمل خادمًا عندك وأدخل معك في علاقة تعاقدية، فإنّنا من الناحية الإنسانيّة متساويان، ولابد أن ندخل في علاقة تراحمية تتجاوز عمليات التبادل الاقتصادية(خدمات مُقابل نُقود). لكل هذا لا داعي لأن تدفع لي هذه المرة".
ولذا كُنت أحيانًا أخبره أنّني ليس معي نقود وأرجوه أن يأخذ أجره الأسبوع الذي يليه. وبذلك أعطيه الفرصة أن يكون دائني ولأن يدخل معي في علاقة مساواة إنسانيّة تراحميّة.

•د.عَبد الوَهاب المسيري | رِحلَتي الفكريّة.

إليك...
كَم تبدو الحُروف باردة إذ لا تَقرؤها عيناك، وكم تبدو كلماتي ساذجة إذ لا تَصلُك، كُنت أحاول جادةً أن أتصالح مع الشتاء لكنني لا أستطيع آلمتني برودة هذا الشتاء، وألمي لا يُقارن بألم أهل غَزّة ليت هذا الشتاء يمضي سريعًا لأجلهم، لماذا أكتُب؟ وما الذي دفعني إلى ذلك؟ إن كان غيابك فأنت هكذا غائبٌ دومًا، وتغيب دونما تبرير، وأنا ما زلتُ أنا، أرقُب حُضورك المفاجئ، حضور لا أعرفهُ حتى.
إنها "سُخريّة الحياة منا" لكن لا بأس أليس كُل شيء مَكتوب؟ وإنّي بفضلك أكتشفُ جوانب جديدة مني وأعرف أنّني أستطيعُ أن أمضي وأنا أحمل الكثير داخل قلبي، وأعرفك بقدر ما أجهلك، ولا أرتجي شيئًا بحروفي هذه ولا أطلب شيئًا لا سمح اللّٰه فهذا ليس طبعي وأنا قاسية إن تعلق الأمرُ بشيءٍ قد يمسُ كبريائي، هكذا نَحنُ عزيزاتٌ، أكتب لأنّني أشتاقُ أن أَكتب وأعرف أن قرار بسيط يجعلني أحذفُ ما كَتبت، ولا أكتب لتعود لأن قرارك هو الصواب.
إليك، حَيث الصوتُ ما زال في الحُنجرة لأنّه لا يعرفُ سبيل الوصول إليك، ولأن الرسائل تختبِئ خجلًا لأنّها لا تعرف إن كانت ستطال عينيك... إليك نُقطة وغيابٌ جديد.

أما خِفت إن قررت الغياب
أن تعود ولا تلقاني؟
هل يكون قرارُ البُعد بمزاجِك كما يكون القُرب؟ لا أريد أيّ أمر لا يرضاهُ اللّٰه، وأعرف أن الإنسان يخطئ وُكنت قد عزمت على معالجة خطئي قبلك، ولا أريد أن أكون سببًا في ذنبٍ قد يقترفهُ أحد ولا أريد أن أشعرَ يومًا أنّني أفرضُ نفسي على أحد لأن نفسي عزيزة عليّ، وربما كانت البداياتُ جميلة على الرغم من عدم ابتدائها أصلًا وللعدل والإنصاف على النهايات أن تكون ألطف والتي طالما أملتُ أن لا تكون كذلك، وإني إن كَتبتُ الآن فلنفسي كي لا يدخل ريبٌ أو شكّ في نفس من يقرأ ويظنُّ أنّني قد أكتُب لأجد ردًّا ما، أنا لا أبحث عن إجابات؛ حصلتها منذُ مُدّة حين سمحت لي في ذلك، وكما أنك تخافُ على قلبك فأنا أخافُ عليه، لكنها مُشكلة الأمل المُعلق الذي لا أدري من أين جِئتُ به، لا بأس إن كان هذا سبيل راحتك فهو يرضيني وإن آلامني في أوّله، لكن الألم يسكن مع الوقت ويزول وقد سكن، وإن كان خطاب العقل والمنطق حاضرًا فما فعلته كان الصَواب، ولا أكتب لأجد ردًّا، أكتبُ لأخرج قليلًا من حروفٍ لم تنظم نفسها منذ فترة، ولأبرر لنفسي ولك أنّني لا أرضى التهاون ولا أقبله تمامًا مِثلك، ولا ينتابني شَكّ بحسن ظنّك بي، وأنا أفهمك وأحسنُ الظَنّ كذلك.

أشعرُ أن شعار المرحلة ما قاله الإمام ابن الجَوزي:

سلّم قلبك من أن يختلج فيه ريب أو استعجال.

هناك كثير من المَصائب بما يخص الوضع الفلسطيني نعاينُها بأمّ عيوننا يوميًا، هي كوارث بما تحمل الكلمة من معنى، وربما هذه الفترة هي أشد الفترات بؤسًا على الشعب الفلسطيني في كافة قطاعاته، وقدر لنا أن نعيشها ولا غالب إلّا اللّٰه.

للبلايا نهاياتٌ معلومة الوقت عند اللّٰه-عَزَّ وجلّ- فلابّد للمبتلى من الصبر إلى أن ينقضي أوانُ البلاء.
فإن تقلقل قبل الوقت لم ينفع التقلقل، كما أن المادة إذا انحدرت إلى عضو فإنها لن ترجع، فلابد من الصبر إلى حين البطالة، فاستعجال زوال البلاء مع تقدير مدته لا ينفع.
فالواجب الصبر وإن كان الدعاء مشروعًا ولا ينفع إلا به، إلا أنّه لا ينبغي للداعي أن يستعجل، بل يتعبّد بالصبر والدعاء والتسليم إلى الحكيم.
ويقطع المواد التي كانت سببًا للبلاء، فإنّ غالب البلاء يكون عقوبة.
فأما المُستعجل فمزاحم للمدبر، وليس هذا مقام العبودية، وإنّما المقام الأعلى هو الرضى، والصَّبر هو اللازم.
والتلاقي بكثرة الدعاء نعم المعتمد، والاعتراض حرام، والاستعجال مزاحَمة للتدبير، فافهم هذه الأشياء فإنّها تُهوِّن البلاء.

•الإمام ابن الجَوزي | صَيد الخاطر.

«إذن من أينَ يأتي الحُزن؟»
أشارت إلى قَلبِها وقالت: من هُنا.

«فمَـن للأمّـة الغَـرقَى إذا كُـنا الغريقينا؟
ومَن للغاية الكُـبرى إذا ضمُرت أمانينَا؟»

عزيزي إن الحَرب تشتدّ أعرفُ ذلك فهذا الواقع لا يشير إلّا إلى توسعها، لكن لا يهم المهم عندي أن لا نُفتن ما زالت كُل الأحداث قدرُ اللّٰه فلمَ التَسخط؟
ليكون جوابنا كجواب المُبتلين الصابرين:
"أحبُّهُ إليه، أحبه إليّ".

ولو أنّنا نظرنا لكل الذي يحدثُ بهذهِ العين التي تشيرُ إلى رؤيا واضحة صريحة بأنّ هذا قدرُ اللّٰه أجراهُ على أيدي عباده لما استفاض النَّاس باللوم والعتب والسخط ولزالت الغشاوة وشاهدوا المُسبب لا الأسباب كما قالها ابن الجوزي ولهانت عندنا الدنيا بما فيها فنحنُ نفر من قدر اللّٰه إلى قدر اللّٰه، قل لي يا عزيزي ماذا عسانا أنّ نفعل غير الصبر والرضا والتسليم؟ إن كان أعداؤنا يصبرون في سبيل شرّهم ألسنا أحقّ منهم بالصبرِ في سبيل اللّٰه؟
الحمدُ للّٰه على كُل حال وعلى كُل ظرف نحنُ فيه، وتأكد يا عزيزي ما من ليل إلا ويأتي خلفه نهارٌ وكأنّه لم يكن قط، إنها أقدارُ اللّٰه لنرضى بها ولنصلح ما بيننا وما بين اللّٰه، ولنعتبر الرقعة التي نقفُ عليها ثغرُنا وأن لا يُؤتى الإسلامُ من قبله، لا بأس يا عزيزي سيهونُ كُلُّ مرّ وتمرُ أيامُ الحُروب المُهلكة ويهدأُ القلب من ضجيج الموت المستمر، ومن يتصبّر يُصبرهُ اللّٰه، إن لم نقدر على الصبر لنتصبّر يا عزيزي.