الإنسان الذي لم يحب يوماً لن يجرؤ الألم عليه، لن يخوض في ساحات الألم ويصارع للنجاة؛ وحدها أشيائنا التي -نحب- تعذبنا.

الألم والحب لا يمكن لهما أن ينفصلان، هما وجهان لعملة واحدة، أنت تحب= إذاً أنت تتألم، وكلما ازددت حباً وولعاً، حكمت على نفسك بالألم أكثر فأكثر، والألم هنا لا لسببٍ واحد، تتعدد أسبابه، ومصدره الأول الحب: تتألم لذكرياته، تتألم للحظات التي كنتما فيها في كنف الحب، للدموع التي ذرفتماها، للضحكات التي جمعتكم، للمواجع التي تجرعتموها، للحظة الوداع من تلويحة الكف، إلى تلاشيه من امام ناظريك؛ الألم لا يكون للحب الذي جمعكما فحسب، وإنما لكل ما كان بين لحظات اللقاء الأول إلى تلويحة الكف الأخيرة.

«ما خانَكَ الطَّرفُ منِّي قَطُّ في نَظَرٍ
-‏ولا سَلَا عنكَ قلبي في تَقَلُّبِهِ-

وأنتَ واللهِ؛ يا سُؤْلي، ويا أمَلِي
‏أعزُّ في مُهجَتي ممَّا أراكَ بهِ!»
— الواواء الدمشقي.

أكتب إليك من وجعٍ يضطرم، وشوقٍ يتقّد فلا يخبو، وقلبٍ شجيٌّ لا يسليه نديم ولا ينسيه صديق، فاعلم -رعاك الله- أن الشوق لم يدعَ في قلبي موضعاً إلا وحلَّه واستوطنه استيطاناً، وأن ما بين أضلعي ضاق، أهيم بوجهي شرق الأرض ومغربها علِّي أسلو، وكيف أسلو ووجهك الحسن يحضر…

«فَقُلتُ لَهُ ما مِن عَزاءٍ وَلا أَسىً
‏بِمُسلٍ فُؤادي عَن هَواها فَأَقصِرِ»
‏— عمر بن أبي ربيعة.

«بدويٍ لا أستحى من قول أحبِّك
راح ينسج لك من اللهفة قصيدة»

[أعرِفُ الحزن الذي يهوي بصاحبهِ إلى حيزٍ ضيِّقٍ من اللغة، يغِصُّ بما يختلج صدره؛ لا تسعهُ الكلمات، ولا يُسعِفهُ الصمت]
— لما وأحياناً لمى.

الصور التي تحمل مثل هذا الطابع، لافتة.

تكمن المعضلة في أن الذكريات لا ترحل برحيل أصحابها، ولا تُنسى وإن ادعيت نسيانها؛ مركونة في إحدى زوايا الذاكرة، لتحن لأيامها، وتشتاق أصحابها.

الذاكرة، مسرح جريمة.

«وَإِنّي لَمَجلوبٌ لِيَ الشَوقُ كُلَّما
‏تَنَفَّسَ شاكٍ أَو تَأَلَّمَ ذو وَجدِ»
‏— الشريف الرضي.