إنّي أرفض أن أقرأ الشعر الصوفيّ خوفاً من أنْ ألاقي فيه نوعاً من الأبيات التي يسقطها أصحابها على الله -عزّ وجلّ- فينشدون وصله ومبادلة عشقه والفناء فيه، إلى حدّ أنّ أكثر القصائد الصوفيّة أخذت جانب الغزل تحايلاً وتنكّراً وخوفاً من تصريحٍ ما وضغط اجتماعيّ دينيّ يلاقيه الشاعر؛ فإلى مرحلة زمنيّة محدّدة، كان التصريح في الشعر والنثر عيباً يطول الرجل فضلاً عن المرأة، فكانوا إذا ألّفوا كتاباً في الحبّ والعشق لا ننفكّ نلمح فيه خوفَ المؤلّف وتوجّسه وذاته المتّهَمة نحو (طوق الحمامة لابن حزم). وبما أنّ حبّ الله -عزّ وجلّ- لا يُعاب أحد عليه ولا يعاقَب، أخذوا ينظمون أبياتاً متغزّلين فيها بالله -عزّ وجلّ- بوصف ذلك نوعاً من الإسقاط والكَبْت لا غير.
حتّى إذا قرأ أحدنا مثل هذه القصائد الصوفيّة الملغَّزة، لا ينفكّ يتحزّر هل هي في محبوبة الشاعر أم في الله؛ وليس هذا رمزاً يُحلّل فيُفهَم، وإنّما إسقاط يكشف عن خوفٍ دفين يدخل في باب «الكتابة والارتياب»؛ لذلك أعدّ قراءته نوعاً من سذاجة النفس.

عجيب جدّاً كيف حصرت الحضارات الإنسانيّة ذكاء الإنسان بتحصيله الرياضيّ؛ بدءاً من أفلاطون الذي قيّد الدخول إلى الأكاديميّة بشرط معرفيّ على بابها: "لا يدخل علينا إلّا من كان رياضيّاً"، أيّ من سبق له أن تكوّن تكويناً علميّاً في مادّة الرياضيّات.
فجاءت الحضارة الإسلاميّة بتعلّم الطفل للرياضيّات مندوب إليه شرعاً أو واجب؛ ويوضّح ابن خلدون ذلك بقوله: "الابتداء بالرياضيّات هو من أحسن التعليم؛ لأنّها معارف متّضحة، وبراهين منتظمة، فينشأ عنها في الغالب عقل دَرِب على الصواب يضيء بتوقّد، وقد يقال: من أخذ نفسه بتعلّم الحساب أوّل أمره فيغلب عليه الصدق، لما في الحساب من صحّة المباني، ومناقشة النفس؛ فيتعوّد الصدق ويصير له مذهباً".
وتفضيل ذكاء الإنسان في الرياضيّات في سياق الحضارة الإسلاميّة لأنّ العقل الإسلاميّ كان عقلاً جبريّاً تحليليّاً، منطلقاً من الأهمّيّة الفقهيّة للرياضيّات، والتشريف العقديّ لعلم العدد المتمثّل بأنّ الحساب صفة كمال: {وكَفى بِنا حاسِبِين}.

ربّي أحمد إليك أن وهبتنا ميلاداً جديداً لسوريا بعد طغيان الظالمين بالوراثة فيها، وأسألك ربّي أن تشرق عليها من النّور ما يُطيّب البلاد وأهلها.

في اليوم الذي أفكّر فيه بأهرامات الجيزة ينصرف عنّي النوم حتّى ليلتَيْن وأكثر؛ وبما أنّني من أولئك الذين يعتقدون جازمين أنّ القرآن العظيم جاء تفصيلاً لكلّ شيء، و{ما فَرّطنا في الكتابِ منْ شيءٍ}، فأكاد أجزم أنّه لا يمكن أن يترك بناءً عظيماً، حارت العقول في فنّيّته وسرّه منذ آلاف السنين كالأهرامات، دون إشارةٍ إليه. ولا يمكن تصديق أيّ نظريّة بشريّة تحكم في أمر الأهرامات حتّى الآن؛ إذ أكثرها يقوم على مبادئ فيزيائيّة وهندسيّة يناقض بعضها بعضاً، وإذا سلّمنا بصدق نظريّةٍ منها سنصطدم بالعقل الذي يرفض مبدأ التناقض بين التجربة والنتائج وبين السبب والنتيجة. فضلاً عن أنّنا حتّى الآن لا نحسن ترجمة اللغة الهيروغليفيّة والكتابات على الأهرامات حتّى باتت سرّاً خارقاً، وما زلنا نقرأ الحضارات القديمة بمعطياتنا الحاليّة القاصرة، ولم نحسن إدراك ما يترتّب على التقارب اللفظيّ بين: حجارة وحضارة.
ولفهم ذكر أهرامات الجيزة في الكتاب العزيز، أنصح لكم الاطّلاع على كتاب «الفراعنة لصوصُ حضارة» للباحث المصريّ محمّد سمير عطا؛ إذ لا يمكن ذكر الآيات الموضّحة دون إرفاق شرحٍ لها يوضّح ترابط الحضارات السابقة {كذّبت قبلهم قومُ نوحٍ وعادٌ وفرعونُ ذو الأوتاد}.
ولفهم معضلة الأهرامات وسرّها، أنصح لكم متابعة فيديوهات الشابّ المصريّ أحمد عدلي في يوتيوب.

أذكر أنّني قبل سبعة أعوام كنت مشغولة بتدبّر النصّ القرآنيّ الكريم بقلبٍ يقظان، وكنت أسعى إلى الخروج بنظرٍ خاصّ بي، ولم يتمكّن علم أو اتّجاه آخر من فرض نفسه عليّ كما فعل التعبير القرآنيّ؛ فنظرت ليلة في آية أُشكِل عليّ معناها، وقد كانت آخر ليلة في رمضان، فما كان منّي بعد النظر فيها والتدقيق والموازنة، إلّا أن اتّصلت مكالمة بالدكتور فاضل السامرائي وطرحت عليه السؤال.
أذكر أنّه رحّب بسؤالي ضاحكاً وناقشني به، وأنهى المكالمة بدعاء أن يعلّمني الله أحكام اللغة وأسرارها، ويهديني إلى مواطن جمالها، ويبصّرني بأسرار التعبير القرآنيّ، وأوصاني أن أذكّر مَن حولي، قدر الإمكان، بأن يحبّوا اللغة العربيّة؛ لأنّهم إذا أحبّوها عرفوا مسلّماتها وأسرارها، والتصقوا بالقرآن الكريم وفنون تعبيره.

قرأت، قبل قليل، منشوراً يتحدّث عنّه -أطال الله عمره- فتذكّرت وصيّته تلك.

عجيبٌ كيف أنّ اللغة التي نولَد فيها تُعطينا العيونَ التي نظلّ ننظر بها إلى العالم، حتّى عندما نتوقّف عن التكلّم بها. في هذا الصّدد يقول إيتالو كالفينو في سيرة ذاتيَّة نجدها في كتابه (ناسك في باريس): "كلّ شيء يمكن أن يتغيَّر إلّا اللغة التي نحملها في داخلنا، أو بالأحرى التي تحتوينا في داخلها مثل عالمٍ أشدّ قطعيَّة من رحم الأمّ".

غيرة اللغات، أدريان براڤي، بتصرُّف

قرأتُ في كتاب (هل بعض اللغات أفضل من بعض؟) أنّ متحدّثي لغة منامبو في غينا الجديدة يحتكرون الاسم ويتسابقون إليه، إلى حدّ أنّ أسماء الأفراد فيها تُمتلَك ويُغار عليها، وتحدث جرائم قتل إذا تعدّى إنسان فيها على ممتلكات غيره من المسمّيات (أسماء الأفراد أو أسماء الأشياء).

شيء عجيب وفوضويّ أن تمتلك لغة أشبه بمتاهة تجعلك متأهّباً دوماً للموت، وحريصاً أن تأخذ لنفسك ألفاظاً لم تُحجَز بعدُ لتنجو. لهذا، فإنّ سيلاً جارفاً من الأسئلة اجتاح ذهني حول تأثير ذلك في فكرهم وعالمهم، ولعلّي أكتب هنا ما أتوصّل إليه في ذلك.
وبالمناسبة، الكتاب مليء بغرائب اللغات، أنصحكم بقراءته إن كنتم مهتمّين باللغات. :))

جاءَني توّاً إحساسٌ حزينٌ أنّني ربّما لا أعرفُ من أساليب القرآن الكريم ومتْنِه إلّا الحدّ الأدنى، أو ما يعرفه الأجنبيُّ من تذوّق تعابيرِه وفَهْمِ ما توحي به سياقاتُه؛ فاستعذتُ بالله من شرّ نفسي الجهول التي تحسبني أفهمُ النصّ القرآنيّ، واستغفرتُه وسألتُه أن يجعلني من الذين يحذقون كتابه، ويعرفون فصيح القول وبليغَه، فيكون لهم تدبّرٌ ينقلُهم من قبضة الظلام إلى النور.

وَفقَ تركيب ذهنك وقدرته على معالجة الجمل والتراكيب، فإنّك حين تريد أنْ تصف شيئاً أو حدثاً، عليك أن تصفَه بأقلّ قدرٍ ممكن من الكلمات؛ أي إنّ ذهنك مستعدّ استعداداً فطريّاً لمبدأ الاقتصاد الذهنيّ. وفي السياق الإسلاميّ، لن تستطيع فهم القرآن الكريم دون إدراك مواطن الحذف والاختصار، وإنّ السيّد محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- قد أدرك طبيعة العمل الذهنيّ للغة حين قال: "فُضِّلتُ على الأنبياء بستٍّ: أُعطِيتُ جوامعَ الكَلِمِ…"، وقد شرحوا جوامع الكلم أنّها الاختصار المفيد الناطق بالحكمة والجامع لأطراف الموضوع.
لذلك، فإنّ القرآن الكريم جاء بلغةٍ تراعي الخصائص التكوينيّة لذهن الإنسان القائم على الاختصار في التعبير عن الدّلالات، ولا أستطيع إلّا أن أحمدَ الله على هذه اللغة الشّجاعة العجيبة التي تتوافق مع آليّة عمل ذهني.

كلّ عام وأنتم بنور ومسرَّة وسكون؛

عيداً مؤنِساً سعيداً.