على سِكّة الحديد ولا أدري أين الحديد، أفي السكّة أم في الوريد، آنست ليلة البارحة قبسًا من آي الانفطار، كاد ينفطر لها الفؤاد، وتتجمد لمعانيها الكلمات، وكأني بها الآن تتنزّل: ﴿يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم﴾ لتذكي سؤالًا في العمق أليمًا: فماذا بعد أيها الإنسان؟! ..
لم أكن أعلم حينها - ونحن الذين ذقنا ما سأقول - أن حالنا في هذه الدنيا محكوم في طبيعته بكونه حالًا يُغتذى إما بالاتصال الذي لا يكون إلا من الله وبالله، وإما بالانقطاع الذي لا يكون إلا بفعل وإجحاف من الإنسان، وكذا الحال وما يلحقنا في الآخرة من جزاء وتوزيع منازل: ﴿إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم﴾ فإنه تابع لهذا الاتصال والانقطاع.
وتفصيل ذلك أن ماهية الاتصال لا تُعرَف ولا تُعرّف إلا بالأول والآخر، الذي له أولية وسابقية الاتصال على العباد وهو الله تبارك وتعالى، فكان خطاب الرب للإنسان بـ ﴿يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم﴾ رغم انقطاعه بغروره عن ربه اتصالًا في ذاته يحمل على الاتصال المتمثل في تذكّر الرب تبارك وتعالى، وعليه فإن مجيء اسم الرب مقترنًا بصفة الجمال: ﴿بربك الكريم﴾، له آثاره البليغة في نفس الإنسان: ﴿الذي خلقك فسوّاك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك﴾ تومض وتذكر بالاتصال، والذي من شأنه حمل الإنسان أن يذود بالاتصال الانقطاع عن الكريم، وهذا مقام شريف مهيب من عظيم لمن تأمل.
ناسب هذا المعنى الذي آنست معان في السورة من جهتين: الأولى من جهة اسم السورة، والثانية من جهة النظم والتنقلات البلاغية فيها، فأما اسم السورة الانفطار، فإنه يرجع للأصل فطر، والذي يشترك في المعنى المقصود بمعنييه: فعلى المعنى الأول (الشقّ) يُلمَس معنى الانقطاع، وعلى المعنى الثاني (الخلق ابتداء) يُلمَس معنى السبق وأولية الاتصال.
وأما من جهة نظم السورة فإني قد وجدت في تنقلاتها البلاغية روحًا من المعنى الذي أقصد، يتجلى معنى الاتصال المقصود في النداء الحاصل بـ ﴿يا أيها﴾ و﴿ربّك الكريم﴾، والذي يقابله انقطاع أصم من ﴿الإنسان﴾ وما هو بأصم متمثلًا في قوله تبارك وتعالى: ﴿غرّك﴾، وكأن الإنسان يُصيّر بالغرور شبحًا مطموسًا، ناسب مجيء انقطاعه في الآية مفردًا، أن يكون الاتصال من الله أولًا مفرَدًا سابقًا بكرمه!
وقد يستفحل حال هذا الانقطاع من حال الفردية في التكذيب إلى حال الجماعية: ﴿كلا بل تكذبون بالدين﴾ حيث يسفل بالإنسان، وهو نوع من المسخ لا يعمل معه ما سبق ذكره مما لطف من اتصالات ربانية رفيعة، وقد استحال الإنسان بهذا التكذيب سفولًا، فناسب هذا الحال أن يُقابَل باتصال ملازم يلائم المقام من ذي الجلال: ﴿وإن عليكم لحافظين، كرامًا كاتبين، يعلمون ما تفعلون﴾، الذي هو من عدل الله وواسع علمه ورحمته، فتدبر.
ولأن الله هو الأول والآخر سبق اتصالُه انقطاعَ عباده، والذين منهم متصل ومنقطع، فأما المتصل (البر) فقد أثبت اتصاله بسبقه الإحسان، وأما المنقطع (الفاجر) فقد قطع اتصاله بانقطاعه عن ربه، هذا كما أن البر في أصله إحسانٌ فهو اتصال، والفجور في أصله شقّ فهو انقطاع.
بقي أن أنبه على التلازم في معنى جواب القسم في أول السورة: ﴿علمت نفس ما قدّمت وأخرت﴾ وجواب السؤال في آخرها: ﴿يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله﴾، فأقول: أن علم كلّ نفس ما قدمت وأخرت مستلزم بالضرورة إدراكها لمسؤوليتها المنفردة يوم القيامة، وبما أن يوم القيامة يومٌ فيه الملك والحكم لله، فإن هذا يقتضي انتفاء الملك والحكم عن غيره تبارك وتعالى، وما ستلقاه كل نفس هو الحق والعدل من الله، فلا تملك نفس لنفس شيئًا، والأمر يومئذ لله.
والله أعلم.

الإنسان غريب بفكره ووجدانه ..

‏سورة الروم وما أدراك ما سورة الروم! سورة تأبى إلا الخلاص منك، سورة تُومض بالحنين لله، بالحنين لمدى بعيد .. بالحنين للزّمن اللانهائي! تتوه المفردات في الشّوق له سبحانه، ووحده الدّمع يكني عن شدّة الحنين للقائه! 💔

تباين الأحوال من الابتلاء والذي بسطوة ما يلفت الإنسان إلى ظاهر من الحياة، ﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن﴾، الذي لن يشعر به المرء إلا بعد يقظة يعلوها هزة ليس هذا أوانها .. ﴿كلا إذا دُكّت الأرض دكًّا دكًّا، وجاء ربك والملك صفًّا صفًّا، وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى، يقول يا ليتني قدمت لحياتي﴾ عندها حتمًا سيعلم معنى الحياة وأن يكون حيًّا مكرمًا!

﴿إن إلينا إيابهم، ثم إن علينا حسابهم﴾
لهفة الشوق ورجفة الخوف، يمازجان قلب العبد ولم أر لهما تمازج حق دون هذا اللقاء .. رحمتك اللهم.