وما ذكره محمد بن سيرين -وهو إمامٌ من أئمة العلم- من تمام الحكمة والفقه والفِطنة، فإنَّ الإنسان لا يأمن أن تُعرَض عليه الشُّبهة فلا يجدُ جوابها حاضرًا، فيزيغ بذلك عن الحقِّ ويَضِل، إذ لا يقتصر التأثُّر بالشبهة في الانغماس في الضلالة والارتكاس عن الحق، بل قد يكون في صورة التلبيس في الدِّين، أو التشكُّكِ في بعض مسائله، أو إضعاف التمسُّك بالحقِّ والحرج من إذاعته، أو نسبة الحقِّ إلى التَّشدُّد والتضييق..، ونحو هذه المظاهر، فإن لم ينغمس السَّامع في الضلالة، لازمه الشَّكُّ والاضطراب في الحقِّ طيلة عمره.

ومن هنا يتعيَّن على عموم النَّاس ألا يستمعوا للمُبطلين الذين لا همَّ لهم إلا التشكيك في ثوابت الدين ومحكماته كشحرور اللَّعين وأمثاله، فإنَّ تعريض النَّفس لسيل هائل من الشُّبُهات حريٌّ بأن يُهلكها، وأن يجعل بينها وبين الحقِّ حجاب، فلا تقبل الحقَّ إذا عُرِض عليها بعد ذلك ولو بدليله، بينما هي تقبل الشُّبهة بأدنى حجَّة، بل بلا حجة في كثيرٍ من الأحيان، وما أحسن ما قاله محمد بن الحنفية: «اتَّقُوا هَذِهِ الْفِتَنَ فَإِنَّهَا لَا يَسْتَشْرِفُ لَهَا أَحَدٌ إِلَّا اسْتَبْقَتْهُ» [رواه ابن أبي شيبة في «مصنَّفه» برقم: «38479»].
ومعنى هذا: أنَّ الفتن -ومنها الشُّبُهات- تغلب المستشرف لها قبل أن يتمكَّن من دفعها أو مواجهتها، فكأنَّها تسبقه إلى تحقيق غايتها، وهذا أمرٌ مُشاهد، فمَن يتأمَّل أحوال النَّاس مع الشُّبُهات يُدرك أنَّها أنفذ إلى قلوبهم من قدرتهم على دفعها ومقاومتها، وأنَّ أثرها أبقى في نفوسهم رغم وجود الإجابة الشافية عنها، وهذا ممَّا يُبيِّن خطر الشُّبُهات.
كما أنَّ من أوجه خطورتها: أنَّها لا تحتاج إلى كثير من المقدمات لإيقاع التلبيس على النَّاس، بل الشُّبه تكون أحيانًا بكلمات يسيرات معدودة، بينما يحتاج الرد عليها إلى بيانٍ وشرحٍ وتطويل.
كما أنَّ من أوجه خطورتها: سهولة الاقتناع بها بلا حُجَّة، وسبب هذا -في نظري- أنَّها تقع على وجه من أوجه الاحتمال الممكنة، فيقبلها المستمع دون تمحيص وتحقيق، بينما يتطلب الرد عليها جهدًا مضاعفًا للاقتناع بها، وهذا من أعجب الأمور؛ أن تُقبل الشُّبُهات الساقطة دون عناء أو مُساءَلة أو برهان، ويُعرض عن الحقِّ ولو عُرِض بكل أنواع البراهين.

فالذي ينبغي على المسلم أن يُعرض عن الشُّبُهات كيفما عُرضت، ومهما كان مصدرها: سواءً وردت في كتاب، أو عُرضت في الشاشات، أو طُرحت في المناظرات أو البرامج الحوارية كالبودكاست، ونحو ذلك، إذ لا تتحقق مصلحة شرعيَّة في متابعتها، إلا لمن كان من أهل العلم المختصِّين بالرَّدِّ عليها، أو ممَّن يملكون القدرة على نقضها استنادًا إلى ما يحفظونه ويفهمونه من العلم الشرعي، أمَّا أن يستمع الإنسانُ إلى الشُّبُهات دون أن يكون مؤهلًا علميًا، أو دون وجود حاجة شرعية تستدعي ذلك، كالرغبة في تفنيدها مع امتلاكه القدرة على ذلك، فهذا مما ينبغي اجتنابه، خشية أن تؤثر فيه تلك الشُّبهات، فتُفسد عليه تصوُّراته الصحيحة، وتضعيف يقينه بثوابت دينه، وتُلقي في قلبه الشَّك والاضطراب، فتلتبس عليه كثير من الأمور، ويعجز عن التمييز بين الحق والباطل.
..
https://t.me/khater_42

#الاستشراف_للشبهات
..
🖋 نادر باوزير
📌 ٩-٨-١٤٤٦هـ

..
من يتأمَّل في حال النَّاس اليوم سيجد أنَّ منهم طوائف يُسارعون إلى الشُّبُهات ويستشرِفون لها، دون أن يبذلوا جهدًا حقيقيًّا مماثلًا في التحقُّقِ من صحتها، أو في البحث عن الإجابات الصحيحة عنها، فتَرِد عليهم الإشكالات الشرعيَّة والاعتراضات الفكريَّة، وتظلُّ عالقةً في نفوسهم بلا جوابٍ شافٍ يدفعها، أو ردٍّ مُحكمٍ ينقضها، ومع مرور الوقت يجدون أنفسهم أسرى دوَّامةٍ من الشُّبهات الشرعيَّة والتساؤلات المضَلِّلة، فتتحوَّل هذه الشُّبُهات من إيراداتٍ عارضةٍ إلى شكوكٍ متراكمةٍ، فلا يطمئنون حينها لأي جوابٍ مهما كان مقنعًا، فتتجذَّر هذه الشكوك لتصبح لاحقًا قناعاتٍ راسخةٍ، ومن ثَمَّ إلى انحرافاتٍ فكريَّةٍ معاصرةٍ.
والمنهج الشرعي الصحيح للسلامة من الشُّبُهات هو: بالإعراض عنها، وألا يُصغي الإنسان إليها، فإنَّ الشُّبَه خطَّافة، ولا مأمن لعامِّ النَّاس ولا طُلَّاب العلم ولا حتَّى العلماء من التأثُّر بها، وإذا ادَّعى مُدَّعٍ لنفسه الأمن من الشُّبُهات لقوة يجدها في علمه أو حِذْقٍ في جَدَله فإنَّ ذلك يُعدُّ من الركون إلى النَّفس والغرور بها، ومن كان هذا حاله فهو وشيكٌ إذا نزل به البلاء أن يُفتن، ولنا عبرة بمَن سبقنا، فحين ركن من ركن من المسلمين إلى قوَّتهم وجَمْعهم في حُنين وقالوا: «لن نُغلبَ من قِلَّة»، أُتوا من حيث أَمِنُوا، فولَّى منهم من ولَّى، وخلَّد الله ذكر ذلك في كتابه في قوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ ‌حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25]، وحين تمنَّى قومٌ ممَّن لم يشهدوا بدرًا مشهدًا مع النبي ﷺ، وقالوا: «يا نبيَّ الله! أرنا يومًا كيومِ بدرٍ»، وألحُّوا عليه أن يخرج إلى المشركين لقتالهم في أُحُدٍ، فلمَّا نظروا إلى الموت وعاينوه ولَّى منهم من ولَّى وفرُّوا، وصبر بعضهم حتَّى أوفى بما عاهد الله عليه فاتَّخذ منهم شُهداء، فعاتب الله من فرَّ منهم بقوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ ‌تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران:143]، قال قتادة: «كانوا يتمنَّون أن يلْقَوا المشركين فيقاتلوهم، فلما لقُوهم يوم أُحُدٍ ولَّوا».

ولذلك كان الأصلُ هو: الابتعاد عن مواطن الفتن والابتلاء والشُّبُهات قدر الإمكان، وأن يطلب الإنسانُ السَّلامة والعافية، فليس من العقل امتحان النَّفس في موارد الزَّلل، وليس من الإيمان تعريضها لمواطن الافتتان، فإذا نزل به من ذلك شيئًا دون تعرُّض؛ فليصبر، وليثبُت، وليُكثر من ذكر الله ودعاؤه، وفي هذا المعنى قال النبي ﷺ: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ..» [متفق عليه: البخاري: «52»، مسلم: «1599» واللفظ له]، وقوله ﷺ: «أَيُّهَا النَّاسُ! لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا...» [متفق عليه: البخاري: «2965»، ومسلم: «1742»].
ووجه دلالة الحديث الثاني هو: النَّهي عن تمنِّي البلاء واستدعاؤه، قال ابن الجوزي: «وهذا لأنَّ متمنِّي البلاء لا يدري كيف تكون حاله»، أي: إذا نزل عليه البلاء، وقال ابن بطال: «ولذلك سأل السَّلف العافية من الفتن والمِحن؛ لأنَّ النَّاس مختلفون في الصبر على البلاء»، أي: إذا نزل.

فإذا كان النَّهي متعلِّقًا بالتَّمنِّي، فكيف بتعريض النَّفس -حقيقةً- لما فيه بلاؤها، فهذا من باب أولى.

وهذا ما كان عليه السَّلف الصالح -رحمهم الله- إذ لم يكونوا يُصغُون إلى أهل البدع، ولا يسمحون لهم ببثِّ شبهاتهم وآرائهم الباطلة، بل كانوا يعتصمون بالحقِّ تحصينًا لأنفسهم وحفظًا لدينهم.
وفي هذا قال عمران القصير: «وإيَّاكم وهؤلاء الذين يقولون: أريتَ أريتَ».
وأشار أيوب السختياني بإصبعه لرجلٍ أراد أن يسأله عن كلمة فقال: «ولا نصف كلمة».
وقال محمد بن سيرين لرجلين من أهل الأهواء أرادا أن يقرآ عليه آية من كتاب الله؛ قال: «لا، لتقومان عنِّي أو لأقومنَّه»، فلمَّا لامه أصحابه قائلين: «يا أبا بكر! ما كان عليكَ أن يقرآ عليك آية من كتاب الله»، قال لهم: «إنِّي خشيتُ أن يقرآ عليَّ آيةً فيُحَرِّفانها، فيقرَّ ذلكَ في قلبي»، وقال: «لو أعلم أنِّي أكون مثل الساعة لتركتهما».

قناة بحوث عقدية

قناة تهدف إلى جمع الرسائل العلمية والأبحاث المحكمة في العقيدة والأديان والفرق والمذاهب المعاصرة، مما هو موجود في الشبكة العالمية وتقريبها للباحثين.

https://t.me/Islamic_faith3

?الإصـــدار الــثـانـي

*✉️ ?انطلاقاً من رسالتنا:* صناعة التكامل في المجال العقدي من خلال المعرفة والتعليم وتفعيل الجهود والشراكات.

ومساهمة في تيسير الوصول للبحوث العقدية المحكمة لطلاب العلم وتقريبها لهم?️

?نهديكم هذا الإصدار من:?
موسوعة الأبحاث العلمية العقدية المحكمة

?مميزات هذا الإصدار:
?إعادة ترتيب الأبحاث وفق خارطة علم العقيدة.
?إضافة أكثر من ١١٠ بحثًا جديدًا.

?لتحميل الموسوعة:
https://2u.pw/Y3k8Daeq

?نسعد بمتابعتكم لحسابنا في منصة X
?https://x.com/kalimaorgsa
#جمعية_كلمة

عناوين رسائل علمية مقترحة في العقيدة

1.اقتراح فجوات بحثية بناء على رسائل سبق مناقشتها
2.الاستفادة من متن الطحاوية وكتاب التوحيد
بتقنيات الذكاء الاصطناعي

من نفيس كلام ابن تيمية -رحمه الله-:

(والمقصود هنا: أنا ننبِّه على بعض ما نُبيِّن به تناقضهم وضلالهم في عقلياتهم التي نفوا بها صفات الله عز وجل، وعارضوا بها نصوص الرسول الثابتة بصحيح المنقول الموافقة لصريح المعقول، وكلَّما أمعن الفاضل الذكي في معرفة أقوال هؤلاء الملاحدة ومن وافقهم في بعض أقوالهم من أهل البدع كنفاة بعض الصفات الذين يزعمون أنَّ المعقول عارض كلام الرسول، وأنَّه يجب تقديمه عليه؛ فإنَّه يتبيَّن له أنَّه يعلم بالعقل الصريح ما يُصدق ما أخبر به الرسول، وما به يتبيَّن فساد ما يعارض ذلك، ولكن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة، وصاروا يُدخلون فيها من المعاني ما ليس هو المفهوم منها في لغات الأمم، ثُمَّ ركَّبوها وألَّفوها تأليفًا طويلًا بنوا بعضه على بعض، وعظَّموا قولهم وهوَّلوه في نفوس من لم يفهمه، ولا ريب أنَّ فيه دقة وغموضًا لما فيه من الألفاظ المشتركة والمعاني المشتبهة، فإذا دخل معهم الطالب وخاطبوه بما تنفر عنه فطرته فأخذ يعترض عليهم قالوا له: «أنت لا تفهم هذا، وهذا لا يصلح لك»، فيبقى ما في النفوس من الأنفة والحمية يحملها على أن تُسلِّم تلك الأمور قبل تحقيقها عنده، وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل، ونقلوا النَّاس في مخاطبتهم درجات، كما ينقل إخوانهم القرامطة المستجيبين لهم درجة بعد درجة حتى يوصلوهم إلى البلاغ الأكبر والناموس الأعظم، الذي مضمونه: جحد الصانع، وتكذيب رُسُله، وجحد شرائعه، وفساد العقل والدين، والدخول في غاية الإلحاد المشتمل على غاية الفساد في المبدأ والمعاد.
وهذا القدر الذي وقع فيه ضلال المتفلسفة لم يقصده عقلاؤهم في الأصل، بل كان غرضهم تحقيق الأمور والمعارف، لكن وقعت لهم شبهات ضلوا بها، كما ضلَّ من ضلَّ ابتداء من المشركين منهم ومن غيرهم من الكفار ممَّن ضلَّ ببعض الشبهات، ولهذا يجب على من يريد كشف ضلال هؤلاء وأمثالهم أن لا يوافقهم على لفظ مجمل حتى يتبيَّن معناه ويعرف مقصوده، ويكون الكلام في المعاني العقلية المبينة، لا في معانٍ مشتبهة بألفاظ مجملة).
..
درء التعارض | ج1، ص295-296..
https://t.me/khater_42