ولكن يا أبا إبراهيم، فِراقك مُؤلم. فقد حُرمنا صوتك الآمن، ووعدك الصادق، في هذا العالم البغيض المليء بالشر. قبل مجيئك، كان عالمنا مكانًا رهيبًا ومقفرًا، وعادت إليه الحياة من طلّتك الجميلة المهيبة. بالأمس كنت جنرالًا، واليوم أنت جنديّ فدائيّ في أعماق ساحة المعركة. يا سيّد الحرب، ونذير الطوفان الثانيّ، والقائد الأول للمقاومة. محاصرًا بين الدبابات، تجلس على أريكة مخضبة بدمائك محاولًا اقتلاع عَين طائرة. مشهد بمثابة وصيّة قائد أسطوريّ، وأُغنية كفاح ستعيش لآلاف السنين.

قدَّم الجنرالات التحية العسكرية والكاميرات ترصد وجه مبارك كالمُتَّهم. وحالما سئل عن سليمان خاطر؛ بتعال وحنق مكتوم، وصف مبارك قتل خاطر لجنود الاحتلال بأنه «رجل فقد عقله».

لطالما كان هذا ظن أُولاء الذين هُزموا واتصفوا بالنذالة. فحرب «طوفان الأقصى» تعني لهم حالة «جنون» لا حد لها.

ستفاجئنا الحرب، بقدرتها على الوصول إلى حدود العالم، طالما استمرّت وطالت. بعد عام من الطوفان، نشهد زيادة في الإذلال البري في جميع ساحات القتال. وهو ما يشرح سبب اعتماد الاحتلال على التنانين الشرسة في السماء.

لقد أثبت جنود الطوفان أن «المسافة صفر» هي فلسفة عسكريَّة أعمق بكثير مما كنا نعتقد. بل يُمكننا القول اليوم أن هذا هو السبيل الوحيد. فإن الأمر في القرآن «بدخول الباب» هو في الأصل ثغرة عسكريَّة. وهذا ما جاء في الحديث:«هذا يهودي تعال فاقتله». أمر دائم بالاقتراب والهجوم.

وهو ما أشار إليه بول فيريليو، بأن الصاروخ البالستي يجعل الهرب ضربًا من العبث، والخلاص يكمن في أن تركض نحوه، أن تقهر الموت. وكان يوم السابع من أكتوبر بمثابة ضربة بريَّة متقنة ومفاجئة. لم ينجح الهجوم في اختراق الغلاف المحصَّن من الغزو البريّ وإبادة فرقة غزة عن بَكرة أبيها فحسب، وإنما كان ضربة استباقيّة نسفت خطة الحلفاء الحربيَّة للقضاء على المقاومة، حسب تصريح أبو عُبَيدة المتحدث العسكريّ لكتائب القسّام.

في مثل هذا اليوم «قال رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ». فدخل الرجال، وتبختروا، وعادوا بالغنائم والأسرى. ومنذ ذاك الحين، وإسرائيل تضرب بالصواريخ كل كبد وحجر، كي تُنسينا ثغرة الغلاف، والمسافة صفر، وبأنها كيان سرطانيّ رهين ومأزوم.. حين تتداعى الأسوار، وتلتحم الأجساد.

بعد عام من الإبادة الجنونيَّة بحق آلاف الأطفال والأبرياء، المقاومة مستمرة، وتتكيف، وتلملم جراحها، وتتمسك بالصبر، وتؤمن بقضيتها، وتعاند، وترى الطريق لا النتائج. وهذا ما فشلنا فيه كأمة. فنحن لا نعرف الصبر، وغرس الزرع، والعناد، والأمل داخل الظلام، وتحدي الجبابرة، ولا نفكر إلا في ثمن الكفاح.

وهذا ملخص بَيان أبو عُبَيدة: المقاومة تقول كل يوم شيئًا جديدًا، لكننا لا نسمعه. الجديد هنالك، في سماء فلسطين مذ بدأت الحرب على أهل الله، والله أشدُ بأسًا وأشد تنكيلًا.

سُبحانَ الذي أسرى من صنعاء، ويقذف بالحق، من تحت كُل حصار. إنَّ اليمن كالجبل! يا معاذ بن جبل.

من يتابع الوضع في غزة يدرك أن معبر رفح هو «حصان طروادة». مجرد أداة لتجويع ومعاقبة سكان القطاع، وفزاعة التهجير تستخدم فقط لإحكام الحصار؛ وهذه المفارقة هي الأكثر غدرًا على الإطلاق. من بعيد، يبدو المعبر وكأنه حبل نجاة، لكن عندما تنظر عن كثب، لا ترى سوى المشنقة.

الكمال عقدة أكثر من كونه فكرة راقية سامية، وكثير من يغفل عن هذا ويخدع نفسه بأن السعي والرغبة في الكمال هو من الطموح وعلو الهمة وهو في حقيقته فكرة شيطانية؛ فالحياة قائمة على معنى النقص، وأن كل جميل لا بد أن ينقضي، فطالما أن الحياة تسير على هذا النحو فهو دليل بحد ذاته على أن الكمال فكرة عبثية.

قال عمر بن خطاب: «ما كمل شيء إلا نقص، فليس بعد الكمال إلا النقص»، وبمثل هذه القاعدة العظيمة لابد للمرء أن يبني جذوره ويسقي أغصانه بالرضا والتقبل.

أثرت عقدة الكمال على الشخصيات تأثير شيطاني مسيطر على عقول البشر من حيث لا يعلمون؛ فوقتنا الحالي هو وقت المتشبع بما لم يعطى، وهؤلاء نراهم في كل مكان وأول هذه الأماكن هي برامج التواصل الاجتماعي؛ فيظهر الفرد منهم أنه في قمة السعادة وكمال الرضا والهناء، وهو في حقيقته يعيش بفراغ قاتل.

ومن جهة أخرى توازي جهة مشاهير برامج التواصل، جهة تدور حول ما تضخه وتنتجه الدعاية والإعلام فيبدي سلعته بكمال يوهم المشاهد أنه في نقص إن لم يحصل على هذه السلعة، ونجد ذات الخدعة في جميع مجالات الإعلان: كالتجميل والسفر والسياحة وغير ذلك، ويحرصون على ربط حالة الكمال بها.

فإن تمكنت الجهتين تأثيرها عليك ستعيش في حاله انجذاب غير واقعي للكمال، ويتصور ذهنك أن العالم كله يعيش ويتنعم في روض الكمال إلا أنت؛ فيصبح الأصل في تصورك هو الكمال، أما الشاذ عن هذا الأصل فهو النقص.

الضخ والترويج للكمال جعل تعاملنا مع الحياة خاطئة، فالحياة قائمة على أن الفرد في حالة عمل وسعي، وليس على أنه كامل أو ناقص؛ فالحياة الاصل فيها انها ناقصة وفي حالة نقص، قال تعالى ﴿لقد خلقنا الإنسان في كبد﴾.

عقدة الكمال لها آثار سيئة كثيرة على عكس ما يتصوره البعض، ومن هذه الآثار:
- ازدياد أعداد الطلاق؛ لأنهم اصبحوا يفترضون أن الأصل في العلاقات هو الكمال، وأن النقص فيه هو أمر شاذ غير مقبول، فقد يضع الزوج في ذهنه صورة كمالية عبارة عن مجموعة من كمالات ومفاتن جميع النساء ويرغب أن تكون في قالب وامرأه واحدة، فإن لم يرى ذلك من زوجته؛ نفر منها، وغفل عن قوله ﷺ: "لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها خلقًا آخر".

- كثرة الخيانات: فيرى أنه يستحق أفضل من زوجه فيلتفت يمنة ويسرة ليبحث عن الكامل والأفضل منه.

- وكذلك أدت عقدة الكمالية إلى كثرة المشاكل في الأسر نتيجة لعدم الرضا للحال الذين يعيشون عليه مع أنهم في حال جيد! فقد تتصور الفتاة مثلًا أن الأصل في الحب هو تلك الخيالات الحالمة الكاملة والكلمات المعسولة والهدايا الثمينة والمشاهد الرومانسية التي ترسخت في ذهنها من المسلسلات والأفلام وما ينشرونه مشاهير السوشل ميديا فصار الحب في نظرها مشوّه، وفي صورة كاملة غير واقعية؛ فتقارن بين حالها مع زوجها وبين ما تتصوره في ذهنها من كمالات للحب ليست موجودة؛ فتسخط وتعيش في همٍ وكدر، ويغيب عن ذهنها العديد عن مظاهر الحب الدافئة الواقعية، فالزواج في حد ذاته هو حب فهو وضع حياته بين يديها وكأنه يقول أنا لك أنتِ، والكثير من الوقائع تتبع ذلك كأن يهتم براحتها، وسعادتها، وإلخ. كل هذا نوع من أنواع الحب، فهو ليس منحصر على تلك الصورة الكمالية الزائفة.

- ومن الآثار كذلك: شيوع الاضطرابات النفسية بين عموم الناس كالقلق والرهاب الاجتماعي وضعف تقدير الذات؛ لأنهم يحاكمون أنفسهم إلى الكمال.
- وكذلك مما يورثه هاجس وعقدة الكمال: التناقض؛ لانك تريد كل شيء كامل وأنت في حقيقتك إنسان فيك تناقضات نتيجة لرغباتك الغريزية.

لذا إن أردت النظر لكل شيء أنه يجب أن يكون على حالة الكمال الذي لا يشوبه شائبة؛ فلن تستطع العيش، فالكمال حتى في الإيمان هو أمر شيطاني، كحال الخوارج واعتقادهم أن المرء إما أن يكون كامل الإيمان، وإما أن يكون كافرًا، فالكاذب عند الخوارج كافر ويستبيحون دمه ويقتلونه.

ولهذا يجب أن تعيد البوصلة لاتجاهها الصحيح، ويصبح المقياس: هل هذا الشيء يعمل وقابل أن يؤدي الغاية والغرض، أم لا؟
فاعتدل في نظرتك، واعلم أن كل كمالات السوشل ميديا كمالات كاذبة زائفة؛ فلا يجرفك التيار إلى تدمير حياتك وتعطيلها.

- ملخص لمقطع الكمال الشيطاني لجميل الرويلي

قال كوديرت إن تمثال الحرية هو «قصيدة يمكن لأي شخص أن يفهمها دون أن يكون شاعرًا».

الاسم الكامل لتمثال الحرية، «الحرية تنوِّر العالم» ليس شائع الاستخدام، على الرغم من أن له دلالة أكبر. كان التمثال بمثابة منارة لعدة سنوات، ولكن تم إطفاؤها لأنها لم تكن قوية بما يكفي لتوجيه السفن بعد غروب الشمس. وإذا نظرنا إلى تاريخ هذا التمثال الشهير، نصل إلى نتيجة مفادها أن أعظم إضاءة نجح في تحقيقها -أي التنوير- كانت من خلال استخدام القنابل.

لقد تحققت توقعات كوديرت، فقد أصبحت أمريكا اليوم مدينة على تلة يستطيع الجميع رؤيتها. لكن السؤال الأهم هو: هل يحبونها؟