إنّ من توفيق الله لك..

ألّا يشغَلَك بتوافه الأمور، ولا فراغ اللّحظات، ولا ضياع الأوقات، أن يُذكّرك به فتَذكُره، أن يُطَمئنَ قلبك وسط أمواجٍ عاتية، أن يَهدِيَك السّبيل حين تأكُلُ الحيرة عقلك، أن يأخذ بيدك حين تكون وحدك، أن يَدُلّك الدّرب ويرزقك القُرب، ويُلهمك الفكرة بقلب العثرة، ويؤنِس خَلوَتك، ويُبَرِّد صدرك، وييسّر أمرك، ويرحم ضعفك، أن تكون له وحده، أن تُحِبّه صادقًا، أن تجتهد لأجله، أن تشتاق سجودًا، وتُتِمّ عهودًا، أن تُرافق الإخلاص كما النَّفَس، حتّى تكون جَنَّةً في الأرض، وغرسًا في السّماء..

‏"هذه الحياة أخلاط ظرُوف وتقلّبات، الرابح من شقّ قواربه نحو شطّ الإيمان والهُدى، مقاومًا كلّ موجة تصفع قلبه قبل عينه.
‏قد تجد روحك -أحيانًا- في وسط معمعة عظيمة شاقّة، يطالك جَهدها وكبدها رغم أنّك مُسالم، لم تمتد كفك وصدرك إلا بالسّلام، ثق بربّك السّلام وارضَ به.
‏كم تبدو أمام زحام المصائب تائهًا، يعتلج الكلام في صدرك فتجد طمأنينتك حين تبثّه في مناجاة، القوّة التي لا ينقُضها شيء أن تكون مع الله!
‏القوّة التي تنبع من إيمانك بأنّ ربك معك، وأنّ كل هذه الأقدار تجري بحكمه، وأن رحمته بك تسع كلّ شيء، كلّ شيء! هي القوة التي لا تهتزّ ولا تموت!
الله شهيد بكلّ لحظة خفق فيها قلبك راضيًا، تجاهد روحك كي ترضى، ولسانك ألا يزل وصبرك ألا ينخر الهمّ فيه، ورضاك ألا ينحني، سيُرضيك.

صدِّقني.. مهما تصطكّ به سعتُك، تجد لك عند الله بابًا أوسع مِمَّا تظُن"?.

"وكم نحتاج إلى القلب الهاجريّ!
الذي كلما ضعفت قدمه؛ ذلّ لربّه فزعًا! كلما أراد السّباق وعاق عليه أمر؛ سجد لربّه حاجةً! وكلما أراد موضع صدق؛ رَجَعَ لربّه ليمدّه! الذي كلما زلّت قدمه؛ بكى لربّه! وكلما أراد حياة قلبه؛ رآها عند هذا الطَّرق! وكلما بحث عن الراحة؛ وجدها عند هذا الباب! وكلما أراد عيشُه وفاقته؛ جرّه قلبه إلى هذا السبيل وحده! ذلك القلب الهاجريّ عرف الملّجأ الذي لا حَرف فيه! عرف السّكن الذي لا شرك فيه! عرف معنى الهجرة بالقلب إلى الله، ولا سيما أنها أعظم هجرة! فإنّ الله يُريد ذاك القلب أن يُجتَمع فيه كل شيء يحبّه! ويُرضيه! ويراهُ فيه! ومن ذلك؛ المَسكنة التي تلوجُه وتسيطره في حقّه وحده سبحانه وتعالى!

"فكلما كان حظّ العبد أعظم من الذلّة والفَقر؛ كانَ أقرب من الله عزّ وجل!".

"أمضى دهرًا!
يسير إلى الغاية البعيدة التي طالما نسيها ثم تذكَّرها لمراتٍ لا تُعَدّ.. إلا أنه لم ينسَ همَّها المُثقِل الذي يبيت معه ويصحو..
كان مثل الناس، يرسم خطَّته لخمس سنين مقبلة، يُقسِّمها على الشهور والأيام.. وربما الساعات فإذا غاب عنها أيامًا.. قام يحسب الخسائر، ويُعيد الخطة، وهلمّ نَصَبًا ..
حتى عزم أن يعود إلى يومِه، ويقيم واجباته من صلاة وقراءة قرآن وذكرٍ لله وبذلٍ للمعروف وعلمٍ يتعلمه بما يفتح الله تعالى عليه، فوجد قطاف الهناء دانية، وأغصان السكينة مزهرة.
صار يبصر ما أعماه تيه المستقبل عن إبصاره؛ فـ"الصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ، والصَّبْرُ ضِياءٌ، والْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أوْ عَلَيْكَ" يغدو صباحًا وبين عينيه :"كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها." و﴿إِنَّا هديناهُ ٱلسَّبِیلَ إِمَّا شاكرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾
يعلم ما له وما عليه في يومه وليلته من حقٍّ لله وللناس، ويعلم أنه خليفةٌ في أرض الله يعمرها بالطاعة والعلم والسعي في رفعة الدين القويم..
فسقطت حمولُ الهمّ بسؤال المستقبل التي كلَّف بها نفسه، وبقيت غايةٌ واحدة: أن يُتِمَّ يومه كاملًا في مرضاة الله.وهكذا .. لا تجدُ مرهقًا مثقلًا مُغتمًّا في تطلُّبِ مجدٍ بعيدٍ عاد إلى يومهِ فشيَّد ساعاتهِ بعمارة قلبه بالخشية وجوارحه بالتقوى والعمل بالنافع الذي يسعه جهده = إلا عرف السكينة والطمأنينة والرضا وأشرفت له منارات الوصول.. أن يعبد الله كما شرع الله، مقيمًا ما هو لازمٌ عليه، وأن يتخذ المداومة باليسير المقدور سُلَّمًا لكل خيرٍ.. قاطعًا تردد الفكرة بالعمل، راميًا لافتة الخطة المثالية في محرقةِ السَّير.. مستريحًا من وعثاء التشرد بين الأزمان والأعمال.. فلديه زمنٌ واحد وعملٌ واحد.. آمنًا من غدر الصوارف.. فالنيَّةُ الصادقة تصعد بالعبد في درجات العاملين.
ابنِ يومك، فالمستقبل هو هذه الأيام التي لا تراها ولا تُحِسُّ بها والماضي دليل، والعارفون أشهاد"?.

انتهتِ المواسمُ يا صاحبي وقد خَلَتْ أيام الله؛ ذهبَ رمضان ومرّتِ العشرُ الأواخر، وقد مضَتْ ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر، وكبّرنا الله على ما هدانا، وانتهى عيد الفطر وقد ولّى زمنِ الاعتكاف، انتهتْ في لمح البصر الليالي العشر من ذي الحجة وقد مَنَّ اللهُ علينا ببلوغ يوم عرفة العظيم وبلوغ الدعاء فيه، ثم أتى يوم النحر فذبحنا طاعة لأمر الله، وأكلنا مما رزقنا لحمًا طيبًا، وكادت تنتهي أيام التشريق كلها..

"انتهى كل شيء يا صاحبي ولم ينتهِ القرآن بعد، ولم تنتهِ الصلاة، ولم ينتهِ الدعاء والسجود والقيام والصدق مع اللهِ، فتذّكر دائمًا قوله تعالى « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» وإياك أن تكون عبدًا موسميًا تعبده بصدقٍ في أيامٍ وتغدر وتفجر في أيام أخرى، انتهى كل شيءٍ يا صاحبي ولم يبقَ لك إلّا الله" ♥️✨.

حينما سترك وأنتَ تعصيه، حينما أمهلك وقد أسرفت في الذُنوب والمعاصيّ، حينما وفَّقكَ للهداية بعد أن كادت أن تجتالك الشَّياطين، حينما قبِل توبتك وهو من وفَّقكَ إليها،
حينما وفَّقك لطاعته وأنتَ غافلٌ عنها، حينما حبَّب إليك الطَّاعة وقد كُنتَ تستثقلها، حينما جعلكَ من أوليائه الصَّالحين بفضلهِ ورحمته لا بعملك، حينما عَمَر قَلبكَ بمحبَّته وأحبَّك وهو الغنيُّ الحميد!
سُبحانهُ عظيمُ اللُّطف، ما كان من فضلُ فهو منه وحدهُ سُبحانه، وإنَّ العبد ليذوب خجلًا وحياءً من عظيم فضله وكرمه ومنَّته سُبحانه، اللهُمَّ أوزعنا شكر نعمك، واجعلنا أهلًا لحفظها وأدمها علينا".