تقوم هذه الثورة، أساسيّاً، على القول إن اللغة الشعرية تكشف عن الإمكان، أو عن الاحتمال، أي عن المستقبل، وبأن المستقبل لا حدّ له، وبأن اللغة الشعرية، تبعاً لذلك، تحويل دائم للعالم، وتغيير دائم للواقع وللإنسان
وتنهض هذه الثورة الجمالية - الشعرية على ثورة فكرية تناقض الثقافة التي تقوم على الرؤيا الختامية للكون، أي التي ترى أن العالم معروف، لا مجهول فيه، وأن مهمة الإنسان أن يشرحه، وأن الزمن، بالتالي، ليس مجالًا لاكتشاف شيء لم يكتشف، في حقل المعرفة، وإنما هو فرصة يتاح فيها للإنسان أن يتعرف على المعروف.
لكن، إذا كان مقياس الجرجاني في شعرية الشعر، يبطل شعرية معظم النتاج الشعري العربي، ماضياً وحاضراً، فكيف تكون الحال، بالنسبة إلى المقياس الشعري الجديد الذي يفيد من الجرجاني، ويضيف إليه أبعاداً أخرى، أكثر غوصاً في مشكلية الشعر، وأكثر إحاطة؟
ولكي نوضح أبعاد هذا المقياس الجديد، لا بد من التوكيد، خصوصاً في ما يتعلق بالكلام الدائر حول الشعر، اليوم، على المبدأ التالي: قبل البحث في ثورية النص الشعري أو عدم ثوريته، في جماهيريته أو نخبويته، في تقدميته أو رجعيته، ينبغي على الباحث أن يتأكد أولاً من شعريته. وقلما نجد باحثاً في الشعر، اليوم، ينطلق من هذا المبدأ الأولي. فكل «مجموعة شعرية» مطبوعة، بل كل «قصيدة» منشورة تُعَدّ سلفاً، شعراً. وفي هذا يكمن جانب كبير من عوامل التخبط والفوضى في النقد، فهماً وتقويماً.
إن عدم التوكيد على هذا المبدأ هو الذي أدى إلى هذا الركام الهائل من الدراسات الشعرية التي لا قيمة لها، حول «شعر» ليس شعراً. وهو الذي أشاع في الأوساط الأدبية أحكاماً نقدية وتقويمية شوّهت الذوق والفهم، وخلقت مناخاً، باسم الشعر، يناقض الشعر.
من هذه الأحكام، تمثيلاً لا حصراً، إجماع «النقاد المحدثين» على أن «الكوليرا» النص الذي كتبته نازك الملائكة، عام 1947، هو بداية الشعر العربي الحديث. وما من ناقد، بين هؤلاء، توقف قليلاً ليسأل: هل هذا النص شعر حقاً؟ وسوف يبدو قاسياً، القول الحق بأن أي شخص يُعنى، عميقاً، بالشعر أو يمتلك خبرة في التذوق والنقد، لا يُسقط هذا النص كليّاً من إطار الشعر الحديث وحسب، وإنما يسقطه أيضاً من إطار الشعر. وسيقول عنه ما قاله الجرجاني عن نصوص مماثلة: «ليس للشعر في جوهر هذا النص وذاته، نصيب».

- أدونيس / الثابت والمتحول
ج4، دار الساقي، ط8، ص249-250

ستَمُوتُ. حيَاتُكَ تُغذِّي الزّمنَ، لكنَّ الزّمنَ، في جهَة مَا، قد تخلَّى عنْهَا. وهُناكَ، ثمّةَ وريدٌ أبْيضُ، وَرِيدٌ رُبّمَا فيه ذكْرى تجْرِي، رُبّما نقيضُهَا، الّذي ليْس هُوَ النّسْيَانُ، لكنّهُ النّسْيَانُ ذاتُهُ للنِّسْـيَـان، شيْءٌ لاَ اسْمَ لَهُ في أيِّ لُغَة. أنْتَ، كُنْتَ، يتوقّفُ الصّرْفُ. نَظرْتَ إلَى وَجْه الآخَر، وكانَ بارداً. لكنْ مَنْ كانَ حقّاً؟ في لمْحِ البـصَـر حاضراً بقُـوّة كَي يتـضـمّنَ غـيَـابهُ الشخْصِيَّ. كمَا لَوْ في نفْسه، فكّرْتَ، مُتعجِّباً في هذه الحالَة منْ تصلُّبه وأنْتَ تسْألُ نفْسَكَ إنْ كَانت الأبديَّةُ تُغيِّرُنَا في ذاتنا أوْ أنّهَا تُلْقي بنَا إِلَى فَراغ لأجْل أنْ تُعاقبَنَا بسَبَب تغذيتِنَا للزّمَن، الّذي هُوَ سـخـريتُـهُ، تسْألُ نفْسَكَ «مَنْ؟» و«لمَاذا؟» وأنْتَ تَرَى نوْعاً منْ دَفْقِ مَاء مُعْتم، تفضّلُ عَدَمَ التّخْمِين في ضفَافه. وفجأةً، عَنْ جسَدكَ الأعْصَابُ ابتعَدَتْ، لأنّ الظُّلماتِ كانتْ في الدّخيلَة تحْتَ الأرض المنهدمَة للذّاكرة - وهذه الظلماتُ كانَتْ بئْراً مَملُوءةً بالصُّور التي كَانت العيْنُ، فوْقُ، تتنَفّسُهَا.

[برنار نويل، ترجمة: محمّد بنّيس]

خلَقتِ اللُّغةُ الزّمنَ
ثُمَّ أدْركتْ
أنّهَا خلقَت اللّهَ
لأجْلِ أنْ يأكُلَ الزّمنَ
ونـحـنُ
الآن نمْشي علَى أسْنَانهْ

[برنار نويل، ترجمة: محمّد بنّيس]

الماء ضيّقٌ على عطشي
وأنا ضيِّقةٌ على أنا.

يَنفخُ الموتُ في فَرْجِ هذي المدينةِ من روحهِ.

لم تكن الأرض جرحاً
كانت جسداً كيف يمكن السفر بين الجرح
والجسد
كيف تمكن الإقامة ؟

أيها الأطباء العطّارون السحَرة المنجِّمون
يا قرّاء الغيب

ها أنا أمتهنُ أسراركم
أتحوّل إلى نعامةٍ = أزدردُ جمر الفجيعة
وأهضم صوّان القتل

أمتهن أسراركم = أَشهد غيبَ أحوالي

أَلْهثُ كمن يستوطن في غربنه
أنهيَّم = «ظاهري منتثرٌ لا أملك منه شيئاً
وباطني مُسْتَعِرُ لا أجد له فَيْئاً»
وفي لحظةٍ واحدة،
أتنشّف أتندّى
أتباعد أتقارب
أتراجع أهجم

وأتخشَّع وأَخْتَلّ وثمَّة ما يحول بيني وبيني

كيف أُطلع جسدي عليَّ؟

- أدونيس [من قصيدة: جسد]

حلمنا بغير ما هجسَ الليل

وجهي صخَبٌ طائرٌ تقاسَمهُ الصوت

وجهي مجرّة الرَمز
وجَسَدي عُرْجُونُ اللّغة

-أدونيس

السَّماءُ التي لا تُصلّي
لجراحِ الذين يشكّون فيها
ويثورونَ، مِنْ حَيْرةٍ، عليها،
لا أصلّي لها.