ورد في كتاب الأذكياء لابن الجوزي:
أن هشام بن عبد الملك قال لمؤدِّب ولدهِ _أي لمعلّمه ومربّيه _:
[إذا سمعتَ منه الكلمة العَوراء _ أي الخطأ_ في المجلسِ بين جماعةٍ، فلا تؤنِّبهُ لِتُخجِلَهُ! وعسى أن ينصرَ خطأهُ!
فيكونُ نصرهُ للخطأِ أقبحُ من ابتدائهِ بهِ!

ولكن احفظها عليه، _أي تذكّر أن تنبّههُ منفردًا فيما بعد_ فإذا خلا _أي صار معك وحده_ فردَّهُ عنها].

ولكن أكثر الناس لا يعلمون!

قالت لي: لا أجد من يدعمني في موهبتي!
ولا من يعبّر دائمًا بعد ما أفعل!

لا شك أن قضية الدعم قضية مهمة، يتمنى الواحد منا دائمًا من يدعمه، من يقول له: أنا فخور بك وبما تفعل، من يصفق لخطواته الأولى حتى تثمر وتغدو كبيرة، من يسانده، ولكن إن لم يوجد داعم فلا بأس بصراحة.

أنت لمن تفعل؟
أليس لله؟
واللهُ رأى عملك وأنت تعمله، ورآه وأنت تخرجه للضوء، قل له: يا رب هذا لك، واسأله أن يملأ قلبك غنًى بجنابه الكريم.
والناس كالحاشية حول مَلِك، إن صفقوا وقبلوا العمل جميل، وإن لم يفعلوا فلا ضير في ذلك فصاحب العمل الحقيقي الذي فعلته لأجله وصلَهُ بإذن الله.
وشرطه الإخلاص.
عندها انظر للدعم الذي سيأتيك من الله، وانظر للرد الذي سيردّه عليك لما فعلته له وحده سبحانه عز وجل.
(ومن تطوّعَ خيرًا فإن الله شاكرٌ عليم)

_ولو كنتُ وحدي؟
_ولو كنتَ وحدك.

سيدنا إبراهيم كان شابًا أيضًا وحده عندما حطّم الوثنية.. قال الله عز وجل حكايةً على لسان قومه بعدما حطّم أصنامهم: (قالوا سمعنا فتًى يذكرهم يُقالُ له إبراهيم)
(فتًى): أي شابًا، (يُقال له): أي لم يكن عند قومه معروفًا أساسًا.
ولكن عند المولى كان وحده سيدنا إبراهيم الفتى الشاب أمّة، رجلٌ بألف! قال تعالى: (إنَّ إبراهيمَ كانَ #أمّةً...).

سر لله بخطوات ثابتة مُحكِمًا عينيك على الجائزة عند مولاك فقط، ولا تأبه بأحد.
سر لله بعملك المتواصل الدؤوب كالسهم يترفّع فوق كل الحطام حتى يُصيب الهدف.

حاول ألا تطلب العون من أحد، أن لا تكثر على أحد طلب الدعم فللناس همومهم، أن لا تتوقف وتيأس إن احتجت لدعم وقُوبِلتَ بالاعتذار لسبب أو بدون سبب!

الآن لا أحد يعجب بعملك لأنك في خطواتك الأولى نعم! ومن وُلِدَ بارعًا مَن! لكن إن آمنتَ بموهبتك غدًا ستكون مبهرةً للعالم بإذن الله.

أعلمُ وجرّبتُ ذلك مرارًا أن أحدهم يبخلُ عليك أحيانًا بمجرد رأي! بمجرد لمسةٍ بسيطة في مشروع لله، وأنت وحدك فعلت كل شيء فقط بقي شيء واحد!
لا تحزن.
تجاوز.
ولا تسأل أحدًا أبدًا عن رأيه فيما فعلت، من شاء فيتكلّم وحده ومن شاء فلا.
قد يكون نال إعجابهم وتأثيرهم وقد يكون لا، بصراحة لا مشكلة.
ما دام قصدك الله، أن يقبله الله، أن يرضاه.
فلا تأبه.

واصل لله خطواتك، لا تتوقف عن المحاولة، نمّي قدراتك ومهاراتك كل يوم وغذِّها جيدًا، ومهما فشلت لا تتوقف، فكلنا نفشل، والإنسان الوحيد الذي لا يفشل هو الذي لم يحاول أساسًا، كلها خبراتٌ ثُصقل موهبتك، وغدًا لحظة نجاحك لن يتذكر أحدٌ مرات فشلك، ستنسيهم لحظة الوصول عثرات الطريق.
وتخفّفْ أو على الأقل تَكَتَّمْ في رحلة حلمك من البوح للمُثَبّطين المُقلِّلين من شأن حلمك، فأذى كلماتهم كالسُّم في قلبك.

واصل المحاولة والله لصدقك سيُعينك إن شاء الله، ثِق به.
(حكمةٌ بالغة...)

نور عدنان الزرعي

حكت لي صديقةٌ محبّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
كنا في الحج، فجلسنا في محاضرةٍ مع الشيخ قائد الوَفد، فأخبرنا عن شابٍ كان معه في الوفد قبلنا، كان هذا الشاب شديد الإحسان والخدمة للناس، لعله طوال الرحلة يحمل الأمتعة معهم يلبي حاجاتهم يخدمهم يسارع لقضاء أمور الحُجّاج بأخلاقٍ عالية.
وحين وصلوا للمدينة وحان وقت الدخول للروضة لزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في اللحظة المنتظرة التي يتمناها ويعيش لأجلها كل مسلمٍ مُحبٍّ كوته الأشواق كيًّا، قال له الشيخ:
يا بُني!
ثيابك قد اتسخت وتغبّرت وتعثّرت من كثرة العمل في خدمة الناس، أنصحك أن تبقى لغدٍ فتغتسل وتلبس النظيف الجديد وتتعطّر ثم تدخل لزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يليق بالدخول عليه.
فحاوره الشاب رافضًا حرقة الانتظار! ثم قَبِلَ استجابةً لرغبة الشيخ.

فجلس الشاب تحت المظلات ينتظر الفوج ريثما يدخل للزيارة ويخرج، وإذ به تغفو عيناه فينام، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام خارجًا من مكانٍ مُقبِلًا عليه، ثم يُقبّلهُ من بين عينيه ويقول له بما معنى الكلام:
يا ابني! في ناس هنن بزورونا، وفي ناس نحنا منطلع منزورهم.

والآن أريد أن أقول لكم شيئًا:
بقيت هذه القصة مدوِّيةً في قلبي وأعماقي، وشعرت أن إحساننا للناس، لن يذهب عند الله سدى، أخبارنا الحسنة، لعلها معروضةٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبنا وأشواقنا معلومةٌ باتصال القلب بالقلب.
والأجمل لحظة وصلٍ يراسلك فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجَبر، ولو كان ما تفعل خفيًّا بين الناس.

إن لم تصل، فاللهُ يُوَصِّلُك
وإن لم تتصِل، فاللهُ يُوصِلُك
وأخبارك اللهُ يحمِلُها
وأشواقك المولى يعرضها
وحبك الأعظم لا يذهب سدًى أبدًا.

اللهم في قلبي شوقٌ لرؤيته وزيارته يتقّد كل يومٍ أكثر، اللهم قارب بين أسفارنا، اللهم أحاول كل يومٍ مدّ حبال شوقي إليه، اللهم فبلّغه عني واحملني إليه.

🍀طُوبَاهُ مَن يُرزَقُ حُبَّكَ..
ويَعيشُ العُمرَ على خُطَاكَ
🍀يَذكُرُ يُخلِصُ يَجبُرُ يَنفَع..
لا يَرجُو هَوًى، إلا رِضَاكَ
🍀مَن يَحيا لا يَعصِي أمرَكَ..
أخلاقُهُ من فَيضِ شَذَاكَ
🍀طُوبَاهُ مَنْ هَمُّهُ هَمُّكَ..
مَن حَنَّ فُؤادُهُ لِيَراكَ

#مَن_حَنَّ_فُؤادُهُ_لِيَراكَ

نور عدنان الزرعي

هذا حوارٌ دار مرة من فتاة على مواقع التواصل، ثم أحبّت أن تجعله تصميم جميل أرسلته لي، فأحببت أن نضعه بين أيديكم للفائدة💓

تشتاق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيغدو الكون غربةً من دونه فوق اغترابك!
وتجد أنك كل يوم تحاسب نفسك على الزلّات، فتلومها على النافلة إن فاتتك، على السنة إن لم تُصلِّها، على تقصيرك في القرآن، وحتى على خواطرك، وعلى طريقة غضبك حين تغضب ومتى وكيف تتكلّم.
كل مناك أن تتمثّل: (ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه...).

كل مناك أن تزوره، فلا يحدث!
كل رجاك أن تراه في منام، فلا يكون!
ولأجل هذا الحب في رحلتك إليه تتخلّى عن كثيرٍ من العيوب وتخفّف منها، وتتعلّق بأعمالٍ ترفعك لأمنيتك السامية.

فما أنداه من حبٍّ يربّي يُرقّي أهله.

تقترب منه فتحب أن تقترب أكثر، ويصبح في كل خواطرك طيلة يومك، فيشدّك الحب لمعرفة سيرته والقراءة عنه، وتدمنُ الصلاة عليه -صلى الله عليه-، وأنت تظن كلما فتِرتَ أنك لن تذوق الحب مجددا! لكن بمجرّد العودة للصلاة عليه تعود عجلة القلب للعمل من جديد فتشتهي ألا تقوم!
إحساسٌ يراود أناملك التي تمسك سُبحتك أنك تمسك يدهُ، وإحساسٌ يراود روحك أنك الآن تجالسهُ، وإحساسٌ يراود سمعك أن قلبك يسمع ردّه.
فتسلو.
وما لك لا تسلو! (ومن لم يجد إلا صعيدًا تيمَّمَ).

وحين تسمع عنه تتملّى وتتمنى لو يطول اللقاء الذي يتحدث عنه ساعاتٍ تلو الساعات، تستأنس تسلو ويواسيك بحروفه التي تقطرُ نور، يداري قلبك المحزون وتشعر أن لكلماته وقعٌ وسِرٌّ مختلف، يعمل في قلبك أشياء كثيرة تغرّد وتداوي وتلوّن حياتك بالفرح، وتجيبك على متاهات عمرك وروحك وفكرك على حدٍّ سواء.
ويكبر هو في قلبك وعقلك وتصغر أنت بعين نفسك من عيوبك!

تشعر كلما اقتربت أنه من المحال أن تنال وِصالًا لما أنت عليه رغم الحب من التقصير! لكن من حيث تدري ولا تدري الحب هتّانٌ إلى روحك، يحوم بالحنان حولك، وقلبك يعمرُ كل يومٍ بازديادٍ لهذا الحب.

(النبيُّ أولى بالمؤمنينَ من أنفسهم...)
يا أولى بي منّي..
لا تُكثِرِ الهجرَ إنّي
محبكم بل شغوفٌ..
لا تبعُدَن رسولي عنّي
أحِنُّ للوصالِ..
وشفّ بي مقالي
والحزنُ بي يصولُ
رباه ضاق حالي
ناديتُ يا رسولي..
أحِنُّ للوصولِ
لكنكم كرامٌ..
كغيمةِ الهطولِ

نور عدنان الزرعي

أخطأت بحقي إنسانةٌ وأساءت لي إساءة كبيرة جدًا، لكنها لم تسمع مني كلمة عتابٍ واحدة ولم أتكلّم عنها كلمةً واحدةً تصلها فتؤذيها، لأنّ لها أيام فضل، ومواقف دعم، لا أستطيع أن أنساها، لكن كل ما فعلتُ لها أن ابتعدت عنها.

وأخطأت بحقي إنسانةٌ أخرى، صحيحٌ أن الأذى منها كان فقط كلمةً واحدة، لكن تلك الكلمة كانت بوزن جبال، لكنني أيضًا لم أعاتبها ولم أتغيّر قطُّ عليها، لأنني نظرتُ في نيّة كلمتها فوجدتها خير، لسابقِ إحسانها عليّ ومواقف داعمة بدت من قبل منها.
(ولا تنسوا الفضل بينكم)..

صحيحٌ أنّ البعض لا يصلح له إلا أن تردَّ عليه الكلمة بالكلمة، وأن البعض من الشر بمكان لا يستوعبُ إلا بالجدّية والحِدّة وأن توقفه عند حدّه إن تمادى.

لكن ليس كل البشر هكذا، فالبعض له موقف معك تزن جبال، موقفٌ دعمك به في وقتٍ كنتَ أحوج ما تكون لداعمٍ، قال لك كلمات من الفضل يستحيل أن تُنسى! مازلتَ تستندُ وستبقى تستند عليها سنين، فإن بدر منه سوء؛ لا تنسف الماضي الجميل!
إن كان ليس هنالك توافقٌ بين شخصيتك وشخصيته فاجعله في حياتك بعيدًا لا من المقربين، لكنّ ماضيه الجميل وتقواه المعروف يشفع له فلا تتهوّر بردّة الفعل.

البعض يكلّمك بحدّةٍ أو بانفعال زائد أو بكلمة جارحة وغير صحيحة، لكن تنظر إلى نيّته فتجده ملهوفًا عليك، خائفًا على مصلحتك وسمعتك، يدعمك ويلبّيك كلما احتجت إليه، وفي غيبتك يستر عنك أخطاءك ويسد عنك عثراتك ويدافع عنك، فلا تنسف الماضي الجميل وتنسى الفضل بموقفٍ أو كلمة!
لا تخسر مثل هذا الإنسان بعتابٍ على كل هفوة! يعكّر قلبه عليك!
فكسب مثل هؤلاء الأشخاص أولى من كسب المواقف.

ابقِ ميزان الوعي والحِكمة في قلبك وعقلك عامِلًا في كل المشكلات.
ولا تنسَ أن الاختلاف جزءٌ من طبيعتنا كاختلاف ألواننا وأشكالنا تمامًا.

ونصيحتي الأخيرة لك:
دع حدودَ أمانٍ بينك وبين كل الناس، ولا تقرّب من حياتك الشخصيّة إلا القلّة القليلة الثقة جدًا فقط، تُرِحْ بالك.

(ولا تنسوا الفضل بينكم).

نور عدنان الزرعي

🌸1

قالت: أنا إن فاتتني صلاة الصبح، لا أصلي بقية الصلوات طيلة اليوم، كي أبدأ من الصباح الباكر بدايةً صحيحة، وأحيانًا أقول: سأبدأ من أول الأسبوع القادم، ذلك أفضل.

قلت لها: لكن في الحقيقة أنت لا تصلّين دائمًا الصبح، ولا تصلّين دائمًا من بداية الأسبوع، فأنتِ تفوّتين صلواتٍ كثير! أليس كذلك؟
ضحكت، وقالت: نعم!
قلت لها: هذه إحدى خدع الشيطان علينا، يخدعنا بالتسويف، لا يأمرنا من مكرهِ أن نترك الصلاة للأبد، وإنما يأمرنا بتأخريها بألف حجة، حتى تفوتنا.

ثم قلت: أرأيتِ إن وزّعت ورقة الأسئلة عليكِ في الامتحان، إن لم تعرفي السؤال الأول، هل تسلّمين الورقة كلها فارغة من الإجابة عن بقية الأسئلة؟ أم تجيبين على ما علمتِ رجاءَ أن تنجحي بالمادة؟
قالت: طبعًا أجيب على ما أعرف، وأترك ما لم أعرف لأنجح.

قلت لها: على بداهة الجواب هذا لكننا في الحقيقة كلنا نفعل ذلك التصرف الخاطئ!
فإن لم نصلِّ الصبح لم نكمل الصلوات بقية اليوم! كالذي سلّم ورقته في الامتحان فارغة لأنه لم يعرف سؤالًا منها!
صلّي يا عزيزتي بقية الصلوات! لعلك في الآخرة تنجحين عند الله! لماذا تريدين أن تأتيه بعلامة صفر!

ولعل العبادة التي تستطيعينها تعينك على العبادة التي لا تستطيعينها، وإن رأى الله عز وجل منك صدق مجاهدةٍ لنفسك والله أعانكِ.

#يتبع...

نور عدنان الزرعي

أدار للعالم ظهرهُ ثم انسحب وغاب، وعلى سجادة المدينة الخضراء جلس وحط الرحال على الأعتاب، وأسند ظهره المتعب على أعمدة المدينة السَّند، التفت يُمنةً فوجد ساجدًا، التفت يُسرةً فوجد داعيًا، هذا هو المكان.
أحسَّ أن الملائكة حوله تحوم، أرخى على وجهه لا يريد أن يعرفه أحد، ولا أن يعرف أحد، لقد تعب من حب الظهور القاصمِ للظهور.
وتناول حاملًا خشبيًّا للمصحف في وقت العصر، ووضع مصحفه، وفتحه ملامسًا صفحاته. شيء من النور يداعب أنامله التي ضمّخها سواد المعاصي، وحده مع الله.. فتح القرآن فتفتّحتْ له أسرار، وانعكس من بياض الصفحات على وجهه المُسودِّ بياض، فبدأ الذنب يتساقط في حِجره مع كل حرف، وبدأ يغتسل بالأنوار، في بقعة مباركة صنعها لوحده، فلمحتْ أشعت الشمس عبدًا خلا بربّهِ، فأشرقتْ وتمايلتْ وانعطفتْ إليه، وتدلّت ثم سطعت عليه، أضاءت له بقعته المباركة، وأهدته الدِّفء، وأسرجتْ حوله قناديل كقناديل المساجد في رمضان، وملأت بالسكينة بلونها الذهبي الهادئ كل المكان.
ضمَّ القرآن، فضمَّهُ القرآن، وضمَّخه بالسرور، ونفحَ عليه من الجنة عطور.
عرسُ المؤمن خلوته، منها قوّته.
فيا حسرةً على المحروم!
ساعاتٌ من اللذات كان قبلها ضائعًا متعبًا، كان مشتاقًا ليتنفّس سور القرآن.
كان فارغًا، يعطي الناس من عقله في كل حضور، والقلب فارغٌ غائبٌ مكسور، فالتأثير بالتالي منه إليهم مبتور!

وخلا ونسيَنا جميعًا بالله.
وصار ينهل، ويتغذّى من القرآن ويتبتّل، فضاء قلبه بعد الانطفاء وتجمَّل.
أفرغَ قلبَه من اللغو والمعاصي، ليملأه قرآن.
سيدنا موسى خلا أربعين يومًا ليستعدّ لتكليم الله، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان يخلو بغار حراء الليالي ذوات العدد ليستعد أيضًا قلبه لتشرّب كلام الله، ليُلقى عليه قول ثقيل.
بعدها كان الفتح والرتب العاليات، والطاقة العظيمة القوية لإصلاح البشرية وحمل راية النور لعتمةِ قلوب الناس.
بعدها كان للكلمات تأثير، الأعماقَ يُثير، يغسل الصدأ، وينفضُ الغبار الكثير.

هل هي بقعةٌ مباركة؟ أم بقعةُ حُبّ، فيها همس حبٍّ من حبيب لحبيب؟
ثم سمعته خلسةً ناجى مولاه فقال:
ألا يكفيني يا رب أني في الدنا غريب؟ وحالي كئيب؟
لا شفاء لي إلا أن أعود العبد القريب.
يا حبيب وما غيرك لي حبيب.
ولا غيرك لي طبيب.
(فإني قريب) قلتَها لنا، لكن الران على قلوبنا أبعدنا عنك يا ربنا.

نور عدنان الزرعي

قال له: وكيف سلوت بعد الحزن؟
_لقد مرت علي أيام من الحزن عبوسةٌ قمطريرا، حتى تدفق الحزن من قلبي على كلّي فوعكت وعكةً شديدة أتأوّه ليل نهار.
وكانت الإجابة عن حكمة ما حدث لي في داخلي، ولعلي لو رأيتُ أحدًا غير نفسي نزل به ما نزل بي من ذاك الغمّ، لنصحته بكلماتٍ تقنعه وتثبّتهُ وتسليه.
لكنني كحاملٍ دواءً بيده، لكنه لا يستطيع أن يوصله لعلّةِ نفسهِ في أعماقه!

لكن الله..
يا الله! ماذا أقول عن الله؟
(الرحمن فاسأل به خبيرا)
يا فاضلي!
لا أعرف كيف أصف لك ما يحدث معي، أحزن فيما بيني وبين نفسي، وأرسل له كلماتٍ قلائلَ أشرح له سبحانه ببساطة معاناتي وأبعادها، وحاجاتي وغاياتها، وأكلّمه بقلب مكسور.
هذا الانكسار بين يديه ثمن العزّة، بل ثمن كل عطيّة، بل ثمن كل شيء.
ألّا تُعجَبَ بنفسك ولا حتى بطاعتك ولا تأتيه بذكر أعمالك الخيّرات! بل أن تنساها كلها حينما تجلس على الركب بين يديه، ولا تتذكر إلا (ربِّ إني لما أنزلتَ إلي من خيرٍ فقير).

ثم بعد المناجاةِ قمتُ، ونسيت ما شكوتُ، وساقتني ظروف الحياة، (وما كان ربك نسيا).
شعرت أن باب الفرج تحرّكت حلقاته وانفرج لأجلي، وبدأت الأمنية تتسلّل لتتحقق لعندي.
شعرت أنه يكلّمني، يقول لي: ما هنت عندنا أبدًا يا عبدي، ولو هُنتَ عند نفسك وعند الناس. ما ضاع من يعيش لنا يا عبدي، لخدمة ديننا والله ما ضاع. ما خاب من رجانا وهو يلبّي حاجات الناس، ما تأخّرت عنه العطايا وهو لا يتأخّر عن الإحسان للعباد. ما انكسر وهو يتحرّى كلماته كي يجبر القلوب ولا يجرحها، ما ضيّعنا طاعته لنا رغم الفتن التي تتخطف حوله الكثيرين.

فوجدته يواسيني بأشياء وأشياء.
وأنت أيضًا إن كنت معه كان معك.
يواسيك ووالله لا يقطعك.
لا تفتقرُ بغناه، ولا تذل بكنف عزّه وهداه.
تجده سبحانه يواسيك برؤيا، ثم يوقظك على بشرى، ثم يقرّب منك ما ترجو، ويثبتك على الحق حين تنطفئ وتنكسر وتخبو.

فتنسى بلطائف وِداده ومؤانستهِ إيّاكَ العطيّة وتحبُّه، نعم.. لكن اسأل به خبيرا، حتى يفهمك عن الله، لتعرف ما معنى (الرحمن).
فيتفخم الحب في قلبك مع الراء، وتهمس بالمناجاة مع همس الحاء ثم ترخي همومك عن كاهليك برَخاوتها، ثم تتغنى بالميم التي تضم بها الشفاه لتوصل الود للقلب بعد أن تغلق عليه، وتقف لتمدَّ الدعاء لها بالألف، مدًّا طبيعيًا لا صريخًا بل أديبًا، ثم ترن النون باسمك مشهورًا في الملأ الأعلى، وكل ذلك من اسم الرحمن تنهلُ الحنان.

نور عدنان الزرعي

رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، وأنت تتجاوز أحزانك رغم أنك أرق الناس قلبًا، أرهفهم حِسًّا وشعورًا، وأحنّهم وأحرصهم طبعًا.
رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت وأنت تمضي فوق البلايا والفقد والأحزان، لأنك حاملٌ في يديك النجاة والفرح للعالم.

ومنذ أيامٍ تلازمتْ مع كلماتٍ جرحتني لليوم وأنا أحاول مكابدتها ودفعها لم أستطع، وتوقفت حقيقةً وأوقفت كل شيء ريثما يعود القلب منتصبًا، لكنني تذكرتك، فعاتبت نفسي.
حين لم يتركوا ضحكة سخرية إلا ضحكوها وأنت كنت تحمل لهم الهدى مع خريطة نحو الجنة، حين لم يتركوا كلمة تجرح إلا اتهموك بها، حين أشاعوا حادثة الإفك عن زوجك أطهر من عرف العالم السيدة عائشة، وحاولوا زلزلة علاقتك بصاحبك الصدّيق أقربهم لقلبك وأحنّهم ومحلُّ معظم أسرارك، ثم بقيت أنت بشموخ الجبال الراسيات وتدًا يمنح الأرض توازنها وثابتها بإحساسك بالجميع بهمّكَ السامي فوق النجوم يحمل همّنا جميعًا، بقيت كما أنت تجلس في مجالس تدعو فيها إلى الله، تعلّم الناس دينهم، ولم تغب عنهم رغم تدفّق الأحزان، وكأن الحزن يا سيدي يحاول أن يتجاوز حدوده ليدخل حرم قلبك السماويّ فيجد اليقين بالله وحب الله عامرًا فيه فيرجع القهقرة مخزيًّا فيضمحلّ.
محاطٌ أنت كالقمر بهالة نور، أتمنى رؤياها.

في سيرتك مواساة لقلوبنا على اختلاف همومنا جميعًا، فالله الله! على قلبٍ رضي أن يذوق أنواع البلاء، فكنت أشد الناس بلاءً لتكون أسوةً لنا.

للآن، نغرق في سيرتك وننهلُ من كلمتك، ونأوي إليك يا من تركت لضياعنا وطن، ولأحزاننا سلوى، ثم مضيت.

دموعنا عندك لم تَهُن، ولا أحزاننا ولا همومنا حتى وصفك الرحمن: (عزيزٌ عليهِ ما عنتّم...).

أستشعر حنانك يومًا بعد يوم، وأعي أكثر أن القضية أكبر، أكبر من أن أقف على أحزاني الشخصية طويلًا دون حزن الأمة وها هي تنزف ليل نهار، في بقاعٍ شتّى تبكي الضياع والشتات وتجرّع ويلات الظلم.
ويومًا بعد يوم، يدوم فيَّ الحب، ويخالط شغاف روحي وقلبي وعقلي، وصوتي وكلماتي التي أرصفها كجسرٍ يحملني إليك.

ألا صلى الله عليك، من قلبٍ مسّه الهم والحزنُ والغربة والوحشة حدّ الذبول والانطفاء يا رسول الله.

نور عدنان الزرعي