فكم نسبة تحقق هذه السنن والشروط فينا في غزة؟ ولنعلم أن النصرة نسبية فبقدر ما ننصره تعالى ينصرنا فلا يكون التمكين التام إلا إذا بذلنا كل ما بوسعنا لتحقيق كل تلك السنن والشروط على أكمل وجه والتغيير في الحال مرتهن بقدر التغيير في النفس {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} والباطل لا يدمغه (أي يصيبه إصابة ماحقة في أم دماغه) إلا الحق الخالص الكامل ولذا عرفه الله تعالى في قوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}.

وأنا لا أقول هذا تقليلا من حالنا في غزة فنحن بفضل الله تعالى على خير كثير لا ينكر ذلك منصف ولكني أريد أن أنبه على الخلل تنبيه المشفق المحب حتى لا نغتر ونصحح المسار ونركز على تحقيق السنن والشروط فينا بقوة لا تأخذنا في ذلك لومة لائم كي نصل إلى المراد دون تخبط. والكلام يطول وأعلم أن هناك شبهات كثيرة لا يسع المقام لذكرها والرد عليها لكن الأمر يحتاج إلى صبر ويقين بالدرجة الأولى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} فإذا تحقق اليقين فالرد على كل الشبهات تقريبا يكون من خلال قول الله عز وجل الذي يملأ القلب سكينة وثباتا: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ}، وقول نبيه كذلك صلى الله عليه وسلم: "مَن أرضَى اللهَ بِسَخَطِ الناسَ كفاهُ اللهُ الناسَ، ومَنْ أَرْضَى النَّاسَ بسخَطِ اللهِ وكَلَهُ اللهُ إلى النَّاسِ" وفي رواية: "من التمس رِضا اللهِ بسخَطِ الناسِ؛ رضِيَ اللهُ عنه، وأرْضى عنه الناسَ، ومن التَمس رضا الناسِ بسخَطِ اللهِ، سخِط اللهُ عليه، وأسخَط عليه الناسَ".
والحمد لله رب العالمين.

الخلافة الأولى التي كانت على منهاج النبوة فقد قال أنس رضي الله عنه مخاطبا التابعين: "إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله ﷺ من الموبقات" والخلافة الثانية لا بد أن تكون على نحو المنهج ذاته لتستحق الاسم ذاته.

1. تحقيق أركان التمكين قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} وهذا خطاب لأولي الأمر في المقام الأول ولا يجوز تعطيل أمر لله تعالى عند المقدرة بقدر الإمكان وتحكيم الشريعة مثلها مثل باقي الواجبات يجب فعل الممكن منها لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا}، وقد أطلق الله تعالى التمكين فشمل التمكين النسبي الجزئي ويكون وجوب القيام بأركانه بقدر التمكن كما في الصلاة وغيرها، والميسور لا يسقط بالمعسور والمقصود بآية التمكين تحكيم الشريعة كلها ورفع لواء الدين. وكلمة الشريعة تشمل كل ما شرعه الله تعالى للعباد وأمر به ونهى عنه فهي تشمل جميع مناحي الحياة وما العقوبات والجهاد إلا جزء من هذه المنظومة الشاملة التي وضحتها بإعجاز هذه الآية: فإقامة الصلاة إشارة إلى إقامة حقوق الله الواجبة وعلى رأس ذلك إقامة الصلاة في الناس وحضهم عليها والمعاقبة على تركها والتهاون فيها ومنع الناس من البيع في وقت صلاة الجمعة ونحو ذلك مما تشمله إقامة الصلاة وذكر الصلاة للتنبيه على ما دونها من حقوق الله تعالى الكبرى المحدودة شرعا ومنها إقامة الحدود التي هي من حق الله تعالى والجهاد وغيره وأما إيتاء الزكاة ففيه إشارة إلى القيام بحقوق الناس العظيمة والمحدودة شرعا وعلى رأسها الزكاة ومنها القصاص والحدود التي هي من حقوق العباد وغير ذلك وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ففيه إشارة إلى التعميم في جميع فروع الشرع بعد أن ذكر أصوله فيشمل إقامة كل بر ومستحب ولو كان من أدنى شعب الإيمان وإزهاق كل منكر ولو كان من صغائر الذنوب بالوسائل المختلفة غير المحددة والمتعينة شرعا لأن التعبير بالأمر والنهي يقصد به مطلق الإيجاد والإعدام بأي وسيلة مشروعة ومنه التعزير على مختلف المعاصي وهذا كله موجه إلى الحكام بالدرجة الأولى لأن التمكين بأيديهم وهذه الأركان بدون اكتمالها لا يمكن أن يكتمل التمكين وهي واجبات الحاكم الأساسية وقد عقب الله تعالى عليها بقوله: "ولله عاقبة الأمور" ليشير إلى التناسب الطردي بين ترسيخ التمكين وبين قوة التحقق بهذه الأركان وليطمئننا بتثبيت التمكين وتكميله إن التزمنا فلا نخاف فيه أحدا ولا لومة لائم وليخوفنا من سلب التمكين وثمار النصر إن قصرنا وهو سبحانه لا يحابي أحدا وقد توعد خير الناس بعد الأنبياء بالاستبدال إن أعرضوا عن أمر واحد من أوامر الله تعالى وهو الإنفاق في سبيل الله فكيف بما هو أكبر قال تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}، والناس لا يصلحهم إلاّ القرآن والسلطان معاً ولو مكثنا حياتنا وأضعافها ندعو الناس فلن نبلغ بهم مكانة الجيل الأول خير القرون ومع ذلك قال فيهم الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" فهذه سنة محتومة ولذلك قُرن صلاح الناس بصلاح السلطان كما قال أبو بكر رضي الله عنه لما سئل عن دوام الخير الذي هم فيه فقال: "ما استقامت أئمتكم".

2. عدم التنازع وعدم التقصير في تطبيق الدين والانشغال عنه بغيره من أمور السياسة ونحوها قال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} ثم بين سبحانه أهم سبب من أسباب التنازع والفشل وهو التقصير في تطبيق كامل الدين فقال تعالى: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}.

3. قلة الخَبث وندرته وانغماره قال صلى الله عليه وسلم: "ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ؛ فُتِحَ اليومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مِثْلُ هذِه. وحَلَّقَ بإصْبَعِهِ الإبْهَامِ والَّتي تَلِيهَا، قالَتْ زَيْنَبُ بنْتُ جَحْشٍ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قالَ: نَعَمْ؛ إذَا كَثُرَ الخَبَثُ" وفي رواية: "إذا ظهر الخبث".

الثالث (خاتمة): نقد كلامه من خلال النظر إلى الواقع وقياسه على سنن النصر:

يقول العلماء إن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال. وأدلة الشيخ كلها محتملة كما رأينا ولا تقوم على ساق.
وأود أن أنبه  هنا أن نقدي لهذه النبوءة لا يعني أني لا أومن بقرب النصر، بل أعتقد أنا على أعتاب الخلافة التي على منهاج النبوة التي بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحكم الجبري الذي نحن فيه مباشرة وبلا واسطة، فقال صلى الله عليه وسلم: "... ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ".
وهذا الاعتقاد مستلهم من روح الشريعة ونصوصها، ففترة الحكم الجبري فترة استثنائية في حياة الأمة وتاريخها كما بين الحديث والاستثناء لا يطول والأصل أن الله تعالى أنزل هذا الدين والحق ليظهره ويعليه كما كان طوال الفترات السابقة، كما أن الربيع العربي معجزة إلهية تنذر كسائر المعجزات بقرب هلاك المعاندين المجرمين، وتمادي هؤلاء الزائد في الطغيان مؤذن أيضا بقرب هلاكهم، وهناك أيضا قيام أول دولة تقوم على أسس الخلافة الراشدة في أفغانستان بعد سقوط الخلافة في القرن الماضي، وكذلك تململ الشام وانتفاضتها وقدح زناد الجهاد فيها والشام هي عصب الأمة كما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم".
ولكني أريد أن أقول إن ذلك الوعد منوط بتحقق سنن النصر فينا وهذا ما ينبغي علينا التركيز عليه لا أن هناك موعدا محددا للنصر سيتحقق مهما كان ولو كانت الأمة لا تزال بعيدة عن دينها فهذا يناقض السنن التي هي مقتضى الحكمة والعزة الإلهية قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} كما أن هذه المنهجية المبتدعة تعد مخدرا خطيرا يضعف روح الأمة إن سرى فيها لأن الأمة الآن تعاني من خلل كبير في نصرة دينها وتحكيم شريعة ربها ولا أستثني من ذلك أغلب الحركات والأحزاب الإسلامية الوسطية التي غلب عليها للأسف الميل إلى التساهل والتميع بل وروح العلمانية وحب الدنيا أحيانا حتى تحولت بتصرفاتها وتأصيلاتها المتميعة التبريرية من رافع مفترض للواء الإسلام وحكم الشرع إلى مساهم في الواقع في تنحيته وإضعافه بدرجات متفاوتة حتى اعترف بعضها بالكيان الصهيوني أقول إن تلك المنهجية سترسخ هذا الخلل عند الناس عموما وعند هذه الحركات خصوصا لأن قرب الموعد سيجعلهم يعتقدون أنهم المنصورون وهذا يقتضي أنهم على الحق المبين وهذا في الحقيقة إغراق في الغفلة وتمتع بالأحلام والمنى وقد يصيب بداء العجب بل أول خطوة في طريق تحقق الوعد هو أن يستيقظ حملة اللواء ويتجردوا له بنبذ الذات وتصحيح الأخطاء والمسار وركوب السنن التي توصلهم إلى بر النصر والتمكين.

وبعض الإخوة الطيبين قد ينظر إلى جانب معين جميل من واقع غزة وجهادها فيظن أن النصر أقرب من شراك النعل وأن غزة هي التي ستحرر القدس وهذا نظر قاصر في رأيي لسببين:

الأول: أن قضية الأقصى قضية أمة وليست قضية فلسطينية بحتة بل إن الأقصى يمثل ترمومتر الأمة في الحقيقة على مر التاريخ فاحتلاله مؤشر على مرضها والعكس صحيح كما أن تحريره عبر التاريخ لم يكن إلا بدعم خارجي لا سيما من مصر والشام والشام كما ذكرت هي عصب الأمة ونبضها ومستقر الكتاب ومقر الخلافة القادمة فكيف هو حال الأمة اليوم وكيف هو حال مصر والشام؟ هل نستحق الخلافة على هذا الحال؟ لعلي أعول أكثر ما أعول عليه بعد الله تعالى خارج فلسطين على حال الجهاد في سوريا الذي اتقد وآمل من مولانا سبحانه وتعالى ألا ينطفئ حتى يلتئم مع جهادنا في فلسطين ليحقق الوعد ويكون نواة الخلافة الراشدة بإذن الله ولكن هذا ما يزال يحتاج إلى وقت لأن حال الجهاد نفسه في سوريا يحتاج إلى إصلاح كثير.

الثاني: أن واقع غزة ذاته لا يؤهل لذلك التمكين التام ونحن عندما نتكلم عن واقع ننظر نظرا شموليا لا إلى زاوية معينة فلا شك أن الجهاد فيها بلغ شأوا عظيما وكثير من مجاهديها ضربوا أروع الأمثلة في الإيمان والفداء ولكن الجهاد وإن كان ذروة الدين لكنه ليس كل شيء فغزة بشكل عام ما استكملت بعد أسباب النصر والتمكين المفضي للخلافة الراشدة والحَكَم في ذلك الوحي فأهم أسباب النصر في الكتاب والسنة هي:

1. أخذ القيادة وحملة لواء الدين لهذا اللواء بقوة كما أمر الله تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} وتربية الناس على القوة في دين الله أيضا (وإن كان يقبل من العامة ما لا يقبل من حملة اللواء) وذلك بالبعد عن الشبهات واتباع الأحسن والأرضى لله كما قال تعالى لموسى عليه السلام: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} وليكون لسان حالهم مع حملة اللواء كما قال المقداد رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون" وهذا هو منهاج

اليومان المكفران عرفة وعاشوراء

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد..

فإن تخصيص يومين من السنة كلها قائمَين على مناسبتين منفصلتين لتكفير الذنوب ليوحي بعِظَم هاتين المناسبتين ورمزيتهما الدينية المهمة وكذلك بوجود رابط ما بينهما.

فيوم عرفة مرتبط بذلك الجمع المهيب المبارك على الجبل، وهذه المناسبة المباركة هي الوقوف بباب الرحمن جل وعلا للتطهر والتأهل قبل أن يؤْذَن لهم بزيارة الرب سبحانه في اليوم التالي؛ ولذلك كان هذا التطهر الذي يؤهل صاحبه لزيارة رب السماوات والأرض سبحانه هو أعظم تأهل يرفع صاحبه إلى مقام القرب من الله تعالى على الإطلاق.
وإذا تأملنا ما شُرع في هذا اليوم من الدعاء والإكثار من التهليل سنجد أن المعنى ينصبُّ في مقصد ترسيخ التوحيد الخالص لله تعالى؛ لأن أعظم مظاهر هذا التوحيد هو الإقرار باللسان بكثرة التهليل وشدة الخضوع والذل والافتقار له وحده سبحانه الذي يمنع من الالتفات إلى غيره والتجرد له، ويظهر ذلك في لباس الإحرام المتجرد من الدنيا وفي الدعاء الباكي المحترق الذي تتجسد فيه أسمى مظاهر الذل والافتقار له وحده سبحانه دون سواه فالقلب لا يلتفت لسواه بل لا يرى أصلا سواه لأن كل ما سواه يتلاشى وينخنس إلى أصله الذي هو العدم ولا يبقى في القلب ما يستحق التوجه إليه إلا الحق سبحانه ولا أحد يستحق أن يوقَف ببابه ويُعبد ويُسأل إلا الحي القيوم الملك الوهاب سبحانه.
فهذا التوحيد والتجرد هو أعظم ما يصلح القلب على الإطلاق، وأعظم تجلياته تكون في الحج في يوم عرفة، ولذلك إذا تحقق هذا المقصد على أكمل وجه فإنه كفيل بإبراء القلب وإصلاحه صلاحا لا ينكسر بعده أبدا، ولذا كان الحج المبرور عبادة العمر إذ إنه يُصلح ما فات ويقيل العثرات ويصلح ما هو آت فيكون وقودا لا ينفد.
ولكن رحمة الله تعالى تأبى أن تتجاوز غير الحاج في هذه المناسبة الجليلة المباركة فشرع له الصوم لأنه أقرب عبادة تتحقق فيها تلك المعاني من التوحيد ـ إذ لا يكون الصوم إلا لله ـ والتجرد لله من كل ما يَلفت عنه من الدنيا وشهواتها، ولكن الصوم لا يقوى على ما يقوى عليه الحج؛ فجُعل كل سنة ليقوم في السنة مقام الحج في العمر.
وهذا التوحيد هو المقصود الأعظم من الخلق لأنه لب العبادة التي خلقنا من أجلها.

ولكن مفهوم التوحيد والعبادة يبقى أوسع من دائرة الشخص نفسه وإن كانت هي الأساس؛ إذ هو الخلافة التي تقتضي أيضا توحيدَ الله تعالى وإقامةَ أمره ونشرَ نوره وإحقاق الحق وإبطال الباطل في الأرض كلها، لكن دائرة النفس هي الأصل وبقدر إحكام التوحيد في النفس بقدر إحكامه في الأرض، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "المجاهد من جاهد نفسَه في ذات الله".
ولذلك جاء يوم عاشوراء ليذكرنا الله تعالى من خلاله بتمام هذه المهمة التي خلقنا من أجلها، والتي لخصها قول نبينا صلى الله عليه وسلم لليهود الذين رآهم يصومون عاشوراء لأنه اليوم الذي نجى الله تعالى فيه موسى عليه السلام وأغرق فيه فرعون: "نحن أَولى بموسى منكم"، فإن هذه الكلمات القليلة تعني انتقالَ الخلافة والأفضليةَ على العالمين إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهم الذين تُناط بهم مهمة الخلافة والرسالة وإقامة التوحيد في الأرض إلى قيام الساعة.
واختيار موسى عليه السلام بالذات لأنه أول رسول تتجسد فيه الخلافة على أكمل وجه بنزول كتاب وشريعة متكاملة عليه وهي التوراة لتأهل البشرية لذلك، وكل مَن بعده من الأنبياء تبع له؛ فاستلم الراية محمد صلى الله عليه وسلم من بعده.

ولذلك جاء صوم عاشوراء بعد عرفة؛ ليتمم معنى التوحيد ويذكرَ بالمهمةِ العظمى التي أُنيطت بهذه الأمة المباركة والمسؤوليةِ العظمى الملقاة على كاهلها.
ولذلك أيضا جاء أجر عاشوراء على النصف من عرفة؛ لأن المعنى الذي يرسخه عرفة هو الأصل وذلك فرعه.

والله تعالى أعلم.

في ظل هذا الحدث المُفرح لقلوب إخواننا في الشام الحبيبة
هذه تعليقات سابقة لشيخنا الحبيب حفظه الله على حدث سابق مشابه لهذا الحدث