يرى دافيلا، أن على النقيض من اليوتوبي التقدمي، يظهر الرجعي الأصيل. مجتث الجذور ومُبعد بفعل ما وصفه إرنست يونغر بـ"العملية الكبرى"، وبدلًا من أن ينحني لتيار الحداثة التي حددها اليوتوبي التقدمي وفرق الهدم التابعة له، يتصدى لكل ذلك. الرجعي الأصيل، وليس المحافظ، يدرك أن تبني موقف محافظ لا يكون ذا قيمة إلا في العصور التي "تحافظ على شيء يستحق الحفظ." على عكس المحافظ العاطفي أو الرومانسي، لا يعيش الرجعي الأصيل في وهم إمكانية إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. بل يفهم أن "المغامرة الزمنية بين الإنسان وما يتجاوزه" يجب أن تُعاش في الحاضر والمكان الذي هو فيه. ومن هنا، يميل الرجعي الأصيل إلى النظرة الدورية للتاريخ، والتي ترى أن تطور التاريخ ليس كما يؤمن اليوتوبي التقدمي، تقدمًا خطيًا حتميًا، بل هو عملية عضوية تحكمها الطبيعة وتخضع لنفس قوانين الصعود والهبوط، الولادة والانحلال.

لكن ذلك لا يعني أن الرجعي الأصيل لا يستلهم من الماضي، بل على العكس تمامًا. فمن أجل إعادة بناء الكون المتحضر داخله بينما ينهار من حوله، يعتمد الرجعي الأصيل على حكمة الأصوات القديمة، التي يقيم معها حوارًا داخليًا عميقًا. إذا كان الرجعي الأصيل يعين نفسه في مهمته من خلال التفاعل الذكي مع العلوم الإنسانية، فإن اليوتوبي التقدمي يعتمد على القوة الشاملة للتكنولوجيا، التي تهدد بـ"تقنية الإنسان" وقطع صلته بالطبيعة. وباعتباره أن "البؤس الروحي هو الثمن الذي يدفعه الإنسان مقابل الازدهار الصناعي"، أدرك أن العالم الذي أصبح أكثر تكاملًا (وبالتالي أكثر هشاشة) بفضل التقدم التكنولوجي لن ينتهي كما يفترض اليوتوبي التقدمي بتحرير البشرية، بل سيؤدي إلى "استبداد شامل". تبرز ملاحظته حول التكنولوجيا فرقًا آخر بين اليوتوبي التقدمي والرجعي الأصيل، وهو مفهومهم المتباين للحرية. فاليوتوبي التقدمي يدافع عن فهم مجرد للحرية يقوم على التحرر من جميع القيود المفترضة، في حين أن الرجعي الأصيل يدرك أن الحرية الحقيقية لا تتحقق إلا عند تجذرها في الزمان والمكان، أي أن مفهوم الحرية لا يمكن فصله عن السياق الواقعي الذي يوجد فيه الفرد. حيث تتوازن الحقوق الفردية بالواجبات والمسؤوليات تجاه المجتمع. فالحرية التي يقدرها الرجعي الأصيل هي حرية من أجل شيء، وليست حرية من شيء. وكما ذكر:

"الحرية ليست غاية، بل وسيلة. من يخطئ في اعتبارها غاية لا يعرف ماذا يفعل بها حين يصل إليها."

تريد البرجوازية الليبرالية إله، لكن يجب ألا يكون فاعلًا، وتريد ملكًا، لكن يجب أن يكون بلا سلطة، وتطالب بالحرية والمساواة، ومع ذلك تقيّد حق التصويت على الطبقات المالكة. إنها تلغي أرستقراطية الدم والعائلة، لكنها تسمح بالحكم المتعجرف للأرستقراطية المالية. إنها لا تريد سيادة الملك ولا سيادة الشعب. فماذا تريد بالضبط؟

— كارل شميت

في النظريات الحديثة للدولة، يمكن ملاحظة مواجهتين فكريتين: الاتجاه العقلاني، الذي يتجاهل حالات الطوارئ، والاتجاه القائم على القانون الطبيعي، الذي يرى أن الطوارئ جزء جوهري من النظام القانوني. في الاستثناء، تتفجر قوة الحياة الحقيقية من تحت غطاء النظام القانوني…

إحدى خصائص ربات البيوت هي أن حماسهن يزداد كلما زادت المطالب الملقاة عليهن. وفي المواقف غير العادية قد يصل هذا الحماس إلى مستوى الجرأة وينتشر كالنار في الهشيم. وقد أدهشني هذا أحيانًا.

يونغر

من قواعد السياسة البريطانية:

«يمكن إعطاء ما يحلو من الوعود، فالوضع يتغير فيما بعد»

لوتسكي، تاريخ الأقطار العربية الحديث، ط٩، دار الفارابي، بيروت، ٢٠٠٧، ص٤٢١

« ومن لم يسره ما يسر المؤمنين ويسوءه ما يسوء المؤمنين فليس منهم. ففي الصحيحين عن عامر قال سمعت النعمان بن بشير يخطب ويقول: (سمعت رسول الله ﷺ يقول: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر). »

– مجموع الفتاوى ١٢٨/١٠

التسلُّح بالتقنية والصناعات المؤثِّرة اليوم ليس خيارًا مرفَّهًا يعطيك قيمة اقتصادية فقط، بل ضرورة إلزامية لأيِّ شعبٍ يريد حماية نفسه في العالم الحديث؛ لأنها الشيء الوحيد الذي يمنحك شأنًا وقيمةً بين الأمم، وتكون كل السلطة والمعايير بخصوص التقنية المفروضة على أي شعب تحت سيطرته ومن صناعته. فكرة التخلي عنها لا يصحُّ ذكرها إلا بضمان تخلي العالم كله عنها، وإن كُتب عليها الانهيار، فيجب أن تنهار في العالم من شرقه لغربه. أمَّا فكرة التخلي عنها بداعي حماية نفسك من ضررها وعدوك يمتلكها ويتمسَّك بها، فذلك أكبر درجات الغباء والتخلف.

التكنولوجيا قوةٌ جبارة، ولا تتحقق فائدتها إلا بامتلاكها وتبنِّيها صناعيًا داخل حدودك، أما غير ذلك فلن ترى منها سوى السلبيات.

يصف يونغر المدن على أنها مساحات شاسعة تفتقر إلى الشكل والأسلوب، بسبب تأثير التقنية التي أعادت تشكيلها على نحو فوضوي وغير منظم. التكنولوجيا دائمًا ما تنتج بيئات غير متناغمة، حيث تطغى الفائدة العملية على الجمال والتنظيم. يصفها كـ"ورش عمل ضخمة" تعيد تشكيل نفسها باستمرار دون الوصول إلى هوية ثقافية واضحة. الوتيرة المرعبة للتقدم التقني تؤدي إلى تحولات غير متوازنة تدمر كل الروابط الاجتماعية وأي ثقافة تميز الشعوب عن بعضها البعض، وتستبدل كل ذلك بالفوضى.

المدن ليست أماكن للعيش، وغير مناسبة لذلك على الإطلاق، بل أشبه بمصانع عملاقة تُستهلك فيها الموارد وتُنتج بسرعة تفوق قدرة المجتمعات على إدراك آثارها العميقة. تدفع الفرد نحو مستقبل غير معلوم ولا محسوب العواقب. ضوضاء وغبار المدن وفوضى البشر لا تساعد على تكوين الحياة التي يحلم بها أغلب الرجال. وكما ذكرت سابقًا، فإن فكرة الاتجاه نحو الأرياف أقل ضررًا من المدن. الحل الواقعي، بالرغم من سلبياته العديدة، لا مجال للمقارنة إطلاقًا بين المدينة والريف. الحياة هناك ما زالت هادئة، يميزها السكون، مع حفاظ السكان على الروابط الاجتماعية بشكل جيد، إلى جانب عاداتهم وتقاليدهم الموروثة من أسلافهم، سواء كانت الحسنة أو القبيحة منها.