Last updated 1 week, 1 day ago
=
● أسبابُ تأخُّرِ ذيوعِ علمِ الكلامِ في المَغرِب:
⏎ وقد كان ما بين المَشرِقِ والمَغرِبِ مِن البلدانِ -كجزيرةِ العرَبِ وما علاها مِن علماءِ العراقِ والشامِ- حائلًا عن وصولِ علمِ الفلسفةِ والكلامِ إلى المغربِ؛ فشَغَلُوا فلاسفةَ المشرقِ الأقصى ومتكلِّميهم بالردِّ والنقضِ والتحذيرِ، ونازَعُوهم بالحُجَّةِ والبرهانِ؛ فحُبِسَتْ تلك البدعةُ في العراقِ والشامِ، ولم تَنتقِلْ إلى المغربِ إلا بعدَ نحوِ مِئَتَيْ سَنَةٍ مِن ظهورِها في المشرِقِ؛ على يَدِ الجَعْدِ بنِ دِرْهَمٍ، فالجهمِ بنِ صَفْوانَ، فبِشْرٍ المَرِيسِيِّ، فأحمدَ بنِ أبي دُؤَادٍ، وطَبَقَتِهم وأصحابِهم مِن المعتزِلة، وكذلك: مَن أخَذَ بعلمِ الكلامِ ممَّن لم يَجْرِ مجرى المعتزِلةِ، وإنَّما رَدَّ عليهم؛ كأبي الحسَنِ الأشعريِّ، فضلًا عن الفلاسفةِ المشَّائِينَ وأشباهِهم مِن المَشارِقةِ؛ ذَّاکَّ كيعقوبَ بنِ إسحاقَ الكِندِيِّ ( ويعد الكندي أول الفلاسفة المَشّائِين ).
⏎ وإنْ كان في المغرِبِ فلاسفةٌ؛ کَّذَّاکَّ ابنِ مَسَرَّةَ الجبليِّ بقُرْطُبةَ مِن أتباعِ أَنْبَاذوقْلِيسَ أحدِ حُكَماءِ اليونانِ السَّبْعةِ، وكان يزعُمُ الانتسابَ إلى مذهبِ مالكٍ، واختصَرَ «المدوَّنة»، وكان يَحفَظُ مسائِلَها ويسرُدُها، وهو مِن فلاسفةِ المتصوِّفة، وتَبِعَهُ تلامذةٌ نُدْرةٌ على مذهَبِهِ؛ کَّذَّاکَّ محمَّدٍ الخَوْلانيِّ ابنِ الإمام، وذَّاکَّ عبدِ العزيزِ بنِ حَكَمٍ، وكان الخليفةُ يَتتبَّعُ أتباعَهُ بالحَبْسِ والنفي.
● وقد رَدَّ ابنُ أبي زَيْدٍ القَيْرَوانيُّ على ذَّاکَّ ابنِ مَسَرَّةَ في كتابِه «الرَّدِّ على ابنِ مَسَرَّةَ المارقِ»، وبَقِيَ مذهبُ ابنِ مَسَرَّةَ في المغربِ، وهو الذي آلَ إليه ذَّاکَّ ابنُ عَرَبيٍّ في القرنِ السادسِ بالأَندَلُس.
⏎ وكذلك: فإنَّ فيهم معتزِلةً قليلِينَ؛ کَّذَّاکَّ خليلِ بنِ عبد الملكِ بنِ كُلَيْبٍ القرطبيِّ، المعروفِ بخليلِ الغَفْلة، وقد شدَّد عليه جماعةٌ؛ کَّذَّاکَّ بَقِيِّ بنِ مَخْلَدٍ، وابنِ وضَّاح.
☚ ومِن المعتزِلةِ: **ذَّاکَّ أبو طالبٍ شيخُ المعتزِلةِ ولسانُهم، وفيهم أهلُ خُرَافةٍ في الكَرَاماتِ؛ کَّذَّاکَّ أبي القاسمِ البَكْريِّ الصِّقِلِّيِّ القيروانيِّ، وقد رَدَّ عليه ابنُ أبي زَيْدٍ بكتابِهِ: «الرَّدِّ على البَكْريَّة».
وليس لهؤلاءِ المبتدِعةِ كُتُبٌ، وإنما هي أقوالٌ تفوَّهوا بها.
📕 صحيح مسلم - ت عبد الباقي ٣/١٤٣١
● وقد كتَبَ ابنُ أبي زيدٍ القَيْرَوانيُّ إلى ذَّاکَّ الباقلَّانيِّ -مع كونِ ابنِ أبي زيدٍ أسَنَّ منه- يسألُهُ عن الكَرَاماتِ لِعِلْمِهِ بأقوالِ المعتزِلة، وردِّه عليهم؛ حيث نُسِبَ ابنُ أبي زَيْدٍ في «ردِّه على البَكْريِّ» بمشابَهةِ قولِ المعتزِلةِ بنفيِ الكَرامَات؛ فانتصَرَ ذَّاکَّ الباقِلَّانيُّ لابنِ أبي زيدٍ، وبيَّن قولَهُ ؛ وقد قال في ابنِ أبي زيدٍ: «شَيْخُنا».
📕[ «البيان» (ص ٥)].**
=
=
**⏎ وعامَّةُ هؤلاءِ سكَنَ القَيْرَوانَ بلدَ ابنِ أبي زيدٍ، وأكثَرُهم تُوُفِّيَ فيها، وخَلَفَهم في ذلك تلامذتُهم، وكان السلفُ يسمُّونَ القيروانَ بإفريقيَّةَ، وقد قال مالك: «تُوُفِّيَتْ حَفْصةُ عامَ فُتِحَتْ إفريقيَّةُ» يريدُ: القيروانَ،.
📕 [«تاريخ أبي زرعة» (٤٨٩ و١٢٨٢)].**
⏎ **وهكذا في «المدوَّنة» إذا أُطلِقَ إفريقيَّةُ، فالمراد بها: القَيْرَوانُ؛ لأنها أظهَرُ مَعَالِمِها وعَوَامِرِها.
📕 [«حاشية العدوي بهامش شرح مختصر خليل» (٣/ ١٨٦)].
● السُّنَّةُ والأثَرُ وعلمُ الكلامِ في المَغرِب:
وكان الناسُ في إفريقيَّةَ والمَغرِبِ على السُّنَّةِ والأثَر، ولمْ تَظهَرْ فيهم البِدَعُ متمكِّنةً، ولا علمُ الكلامِ والفلسفةُ، وقد كان الفيلسوفُ أبو بكرٍ محمَّدُ بنُ الطُّفَيْلِ القَيْسيُّ في القرنِ السادسِ يصفُ نُدْرةَ الفلسفةِ في المغرِبِ بأنها أعدَمُ مِن الكِبْرِيتِ الأحمَر.
📕 [«حي بن يقظان» (ص ٢٠)].**
①- الأُولى : بلادُ المَشرِقِ؛ وهي: مِن عِرَاقِ العجَمِ إلى خُرَاسانَ وما وراءَها، وهي موضعُ الفلاسفةِ في الإسلام، وفيها ظهَرَ علمُ الكلامِ، ودخَلَ في تقريرِ مسائلِ الدِّين؛ كأقوالِ الجَهْمِ بنِ صَفْوانَ، والجَعدِ بنِ دِرْهَمٍ، وهي مَوطِنُ الفارابيِّ، وابنِ سِينَا، وابنِ مِسْكَوَيْهِ، وهي موطنُ أئمَّةِ المتكلِّمينَ « لعنةُ اللهِ عليهم» ؛ كابنِ فُورَكَ، وأبي إسحاقَ الإِسْفَرايِينيِّ، وأبي القاسمِ القُشَيْرِيِّ، والجُوَيْنِيِّ، والغَزَاليِّ.
②- الثانية: بلادُ المَغرِبِ؛ وهي: المغرِبُ الأدنى؛ وتُسمَّى إفريقيَّةَ، وهي القيروانُ وما حولَها، والمغرِبُ الأقصى؛ وهي الأَندَلُسُ وما وراءَها.
③- الثالثةُ: ما بينَهما؛ وهي: جزيرةُ العرَبِ وما اتصَلَ بها مما بين المشرِقِ والمغرِبِ، وما يَربِطُ بهما مِن عراقِ العرَبِ والشامِ، وإنْ كان العراقُ يَعُدُّهُ أهلُ الحجازِ شرقًا، والشامُ يَعُدُّونَهُ غربًا.
● أثَرُ المَشرِقِ على المَغرِب:
والمذاهبُ في المَغرِبِ في الأصولِ والفروعِ، إنما أُخِذَتْ مِن المشرقِ؛ حتى مذهبُ أهلِ الظاهِرِ لذَّاکَّ«داوود الظاهري» لم ينشأْ في المغرِبِ؛ وإنما نَشِطَ فيه، ونشأتُهُ مشرقيَّة.
ومَن نظَرَ في عامَّةِ متكلِّمي الأشاعِرةِ في المَشرِق، وجَدَ أنهم لا يكادونَ يذكُرُونَ متكلِّميهم في المَغرِب؛ بخلافِ المغارِبةِ مع متكلِّميهم في المَشرِق، حتى القرنِ التاسع.
● فلسفة اليُونان وأثَرُها على المتكلِّمِين:
وبعضُ العلومِ كالفلسفةِ أصلُها في الغربِ؛ فقد كان رؤوسُ الفلاسفةِ يونانيِّين، ولكنْ لم تُؤَسْلَمْ فلسفتُهم إلا في المشرقِ أوَّلَ الأمر، ثم أخَذَها المغاربةُ بعد أَسْلَمَتِها من الشرقِ، ولم يُؤسْلِمُوها بأنفسِهم.
❒ ــ وقد ذكَرَ الفيلسوفُ اليهوديُّ ابنُ مَيْمونٍ القُرْطُبيُّ :
**أنَّ كلَّ ما قالَتْهُ المعتزِلةُ والأشاعِرةُ في علمِ الكلامِ مبنيٌّ على مقدِّماتٍ مأخوذةٍ كلِّها مِن كتبِ اليونانيِّينَ والسُّرْيانيِّينَ، الذين رامُوا مخالَفةَ آراءِ الفلاسِفةِ الذين يَطْعُنُونَ في دِينِهِمُ النَّصْرانيِّ، ودعَمَهُمْ ملوكٌ يريدونَ منهم حمايةَ دِينِهم مِن تلك الآراءِ الفلسفيَّةِ التي تَهُدُّ قواعدَ شَرِيعَتِهم؛ فنشَأَ فيهم علمُ الكلامِ، وعنهم أخَذَ المعتزِلةُ، ثم الأشاعِرة، وطبَّقوه بزَعْمِهم حمايةً للدِّينِ مِن تلك الآراءِ، واختارُوا مِن آراءِ الفلاسِفةِ ما رأَوْهُ مستقيمًا على طَرِيقَتِهم.
📕 [«دلالة الحائرين» (١/ ١٨٠)].**
**⏎ وقال أيضاً ابنُ مَيْمونٍ: «إنَّه نظَرَ في كتبِ المتكلِّمِينَ والفلاسِفةِ كلِّهم حسَبَ طاقتِهِ -مِن اليهودِ والنصارى والمسلِمِينَ- فوجَدَ أنَّ طريقَ المتكلِّمينَ كلِّهم طريقٌ واحدٌ بالنوع، وإنِ اختلَفَتْ أصنافُه، وأنَّهم في مواضعَ كثيرةٍ يَتَّبِعُونَ الخَيَال، ويسمُّونه عقلًا».
📕[ «دلالة الحائرين» (ص ١٨٢)].**=
Last updated 1 week, 1 day ago