اصطبغت السماء بلون الفوّة المفتوم، اختلطت به غمائمُ بيضاء مكوّنةً مشهدًا مهيبًا يشيدُ بجلال الكون، ما هي إلا دقائق معدودة حتى تجبّر الظلال واكتسى بخدرٍ على أطراف الكون، وكنأقت السماء به، وتشرّبت لازوديّة السماء قُتمة الليل وعتمته. غشي الليلُ ستار الوحشة، انسدل السواد محملًا في صُهرَتِه عفاريتًا تقضم قلوب الإنس الضعيفة. حينما يجنُّ الليل، يرتبك عالم الروح وتتهدم الفيزياء، لا يكون الزمان زمانًا..ولا المكان مكانًا، تخرجُ وحوش ركنت بغيابةٍ ما وتبتلع حسالةً من الأمل الضئيل الباقي في أكباد الآملين، فتبتلع الأمل بأكمله. تيّقظ في أجواف الحسارى عيون زهر الدفلى، فتتسممُّ تجاويف القلب المقضوم، يفرغ المعنى، وتتهشّم الكليّات. هذا ما يحدث في غشاء الكون غير الملموس، وغدًا تشرق الشمس وتغسل بضوئها مخلّفات الليل، بتكرارية سرمدية.

إن أحد يحصرنا بشيء معيّن شيء يختلف عن إننا نحصر "أنفسنا" بشيء معيّن، خصوصًا لما يكون هذا الشيء معرّف لهويتنا. أكره لما ألاحظ إن قلقي وحزني وحماستي وسعادتي ومصدر أفكاري وتكوّن علاقاتي وما إلى ذلك ينفلقون من جذر واحد، العمل الدراسة العلاقات..وكلّ ذلك، كأن لما يصير هذا ننقبض داخل مضائق الحصر، وأنا متأكدة إن كل إنسان يقدر يكون "أكثر" من هويته كموظف أو طالب في مجالٍ، أو في حالة "الآخر" ويكون زوج أو أم لآخرٍ ما، كل إنسان أكثر من شيء واحد؛ من جنسه وجنسينه وفئته العمريّة وشكله وعلاقاته وأصله وهواياته ولغاته وآلامه.. أكثر بكثير.

ليلة قائظة، رقيت السطح عشان أترقّب انكسار الحرارة وإنقشاع الشفق وتوّضح الصبح، مدينتي الصغيرة صارت بحرًا من السواد، لا ضوء غريب الألق يلتمع في أي زاويةٍ ولا جانب، لحظة من الغمور والصفاء ما يكدّرها حتى الحر –القائظ– أو الحندس المهيب.

لا أذكر آخر مرةٍ شاهدت فيها البحر، لاحت لي زرقته في ضحوة اليوم من بين عريج الأشجار، تحوّل الغيط من جانبيَّ من بنيٍ قاحلٍ ماحلٍ لزرقة رقيقة، كأن السماء طوت على طرفي الأرض مخلفةً تعاريجًا وتداريجًا من الزرقة. جلست اليوم تحت شجرةٍ باسقة قريبة من البحر، ينبت من ساقيّها نبات ضحل، من فوقي تشابكت الأغصات ببعضها البعض، كانت كريمةً بظلالها السابلة، استظلّت بجانبي قطة بلون حليب الشاي، شاركتها كوب ماءٍ لتراها بادرة حب لكي تغدق علي ما أمكنها من ود، تهدّلت الشمس رويدًا حتى تيانعت ألوانٌ باهية، تلاطم الموج، وزاد زجيرُ البحر إثر النسائم الوديعة. كتبتُ، استفاضت نفسي وخرجت كلها على ودائع الصفحات من أمامي. كان يومًا جذلا طلى قلبي بالحبور.

كم أحبُّ البحر.

أحيانًا لما أفكّر (بالسلسة المكررة) من الآلام الشخصيّة فإن حدوثها حتمي، مو لأن تشاؤميّتي تقود تصوراتي للعالم مما يخلّف تكرارًا للمآسي، لكن ما أقدر أشرف أحوالنا البشريّة إلا حلقات مكررة ما رحّ نقدر نطلع من هذي الحلقة اللي تدور فينا بمراحل "إلا" من خلال القراءة والمعرفة والوعي وما إلى ذلك، الأشياء المؤلمة اللي تحدث لنا "هي شيء" أما طُرقنا في التجاوب معها شيء آخر؛ بمعنى إن مخزوننا المعرفي هو اللي يزيد من ألمنا لأن تجاوبنا مكوّن من معلومات، ألاحظ على نفسي حلقات مكرّرة دائمًا، ما أتجاوزها إلا لما أتجاوز نفسي، فالحدث مؤلم نعم، لكن تجاوبي معه من خلال الأفكار وردّة الفعل هو ألمٌ آخر، ولما يكون عندي مخزون معرفي أضخم من السابق فإن لما يتكرر الحدث مرةً أخرى بيكون عندي تجاوب وردّات فعل أكثر خفةً ومنطقيةً، ومن (هنا) أطلع من هذي الحلقة المكررة.

أحب هذا الفيديو (Self-compassion) مرة، أحسّه ساعدني بشكل وبآخر خصوصًا إني كائن معجون بالقلق.

لما أفكّر بالأيام اللي كان عقلي بأبهى وأفضل حلّة ممكنة هي الأيام اللي كنت أبرمج كثير –لدواعي دراسيّة– وكنت أقرأ فلسفة كثير، كانت حلّته إخضاعية إن جاز التعبير، لما أدخل غرفة أحس كل ما فيها معرّف وعقلي يمتصّه إليه، واعية بالغرفة وبما فيها، عكس الآن مثلًا قد لا أعي إلا لما «أحاول» إني ألاحظ الأشياء، ومع إني أكره مرة مرة لما أحاول أخلق حالة ذهنيّة سابقة أو أحاول أرجع إلى ما كنتُ عليه يومًا ما، لأن تيار الحياة الدافع ما يسمح لي أصلًا، إلا إني أرغب أرجع لهذي الحالة العقليّة الـ"الإخضاعية" ومرةً أخرى: إن جاز التعبير.

أصدقاء الثانوي (اللي بدأت صداقتنا من المتوسط) كانوا أصدقاء مرحلة، بعد الجامعة كانت كل واحدة منا لحوحةً كيلا تفقد رابطةً مع الأخريات، لكن مع مرور الزمن بدأت تخف المديمةُ بيننا كنتيجة شبه حتميّة، وقبل سنتين شعرت برغبة «تنظيف» شيء أسمى من تنظيف الموجودات، كان بي نزقٌ لقطع روابط جمّا كانت أشبه بالمنتصفيّة، وجل ما أكرهه هو ذلك، ففعلت. لكن ما أعتقد نقدر نتجاوز تمامًا صداقات تلك المرحلة حتى لو إننا في حياتنا اليوميّة يكاد طيفهم مستحيل التذكّر، لكن ما زالت علاقات الفتوّة من بين كل شيءٍ آخر أكثر تلامسًا بنا بلا شك، فهي جزءٌ حنون مصهورٌ في طينة تكوّيننا، ولا أعرف أعلّل لمَ تزورنا علاقات الفتوّة فتريًا في أحلامنا —مثل في ضحوة اليوم— إلا إنني أميل للتبرير بكونها علاقات نشأت في طور النشأة، فهي مهما كان وصار تربض في القلب مهما طال الزمن.

لمدة طويلة بحياتي ما كنت أعرف ليش كنت أدوّن باستمراريّة –وبلا انقطاع– بينما كانت هذي الحفريات الذاتيّة اللي أحفرها حفرًا حتى أدوّنها ما كانت تشعرني بشيءٍ عدى السوء، كنت أحس إن عندي قدرة رائعة لإخراج كل سانحةٍ وبارحةٍ تربض فيّ كأن كل شعور في الأرض قلبي هو منبضه، وكأن معتقدٍ في الأرض عقلي هو مربضه، وأكتب وأكتب، في كل مكان، ومع ذلك كل حرف لم يشعرني بشيء عدى السوء. أعرف كيف أنتبه لكل ما يغمرني بالداخل، وهذي أنا أصلًا، أحس إني أقدر أخضغ كل شيء تحت عقلي بالمحاولة الدؤوبة، وأشعر إني أنجح، لكن هذه الأيام صار التدوين يشعرني بالأمان بعدما شعرت بعقل تشظّى وتفلّق فلقةً فلقةً وكأنه حطام، كان التدوين يجمعه، يرتبه، يخليني أراه... وأحبّ ذلك جدًا جدًا.

أفكّر آخذ فترة نقاهة، مع إني بالشهر الماضي أخذت لمدّة أسبوع لكن ما كانت "نقاهة فعليّة" إذ إني أشيّك على الـSocial media لمدة نص ساعة وما يُقارب. أحس إني -وكلنا- عمومًا نحتاج فترة نقاهة لمدّة أسبوع على سبيل التقدير في كل شهر. لعلّي لما أصحى أجزم بأني ما أحتاج أكون موجودة افتراضيًا بشكل مطلق، لدرجة أعطّل/أحذف كل شيء، لكن هذا يحدث تدريجيًا، فأعتقد بتكون عندي قابليّة أكثر من سابقتها حتى أكون منعزلة عن عالم الافتراض بشكل مطلق.