يكتب الناس لأن هناك ما يرسل عبق الفكرة؛ قد تكون لكل كلمة إرساء خاص يمتد بين شراعين لا يعلم وجهها غير كاتبها، وقد تكون الكلمة أوضح من البدر الساطع.
ولكن هل وجدت من امتلأ حد انغماس فكرته في الصمت، فما عاد يجد للقلم سردا مثاليا يصف الأشياء من حوله؟
إننا نكتب لأن هناك ما يدفعنا نحو المزيد، تعطشا للحاق بالركب أو لتهافت الناس على أنغام كلماتنا، ولكن متى ما شبعنا أرخينا حبل ود الكلمات وبتنا ننظر ملأ أبصارنا؛ هل للروح مدد غير اكتفاء النفس بما استطابت واستغنت؟! فلا فائدة الآن من مناشدة الأحرف لتصل للمعنى، المعنى في دواخلنا وها نحن نتقابل.

وما زلتُ في رَيْعِ الشّبابِ وإنّما
يشيبُ الفتى في مصرَ قبل أوانِ

- أحمد شوقي

يولد المصري وفي قلبه ورقة بردي مكتوب عليها بحروف ذهبية:
"إن السخرية هي المنقذ من اليأس"¹

لا ينفي أحد أن الكثير من الأشياء مرت بمجرد الاستهزاء منها أو بالأصح وضعها في خانة "اللاشيء" لتقبل الواقع ومن ثمَّ الاستمرار، ولكن الحالة النفسية التي أصبحت متغلغلة في النفوس أن كل شيء علينا السخرية منه وإخراج من زواياه الكئيبة شيئا يدعو للضحك قد يصيب المرء بالوهن، والاستقطاب الدائم للسخرية قد يورثه عدم التعقل في حياته وإصابة الجادة في كلامه ومواقفه، إن الصمت -في كثير من الأحيان- خير من ردة فعل غير متزنة، لأن لا شيء يمر بالسخرية هناك ذاكرة وهناك آثار لكل حدث نحن فقط نحتاج رثاء النفس على قلة عملها وتمسكها بالسخرية الضحوكة المملة.

¹- رواية (المصرية) الصادرة عام 1991م - جيلبرت سينويه.

إنما كان كل فرد عظيماََ بمقدار جسامة ما جاهد به..

رغيف العيش لا تمتلك الطبقة المتوسطة -ليس جميعهم- والطبقة الفقيرة تقسيم لفكرة الطعام، فالطعام عندهم قوت أساسي ليستقو به على الأعمال الشاقة، إذ أن الفرد منهم لا يستطيع سد حاجة بيته بعمل صباحي واحد، بل يعمل ليصل في اليوم لثلاث ورديات متتالية يتخللها فقط أوقات…

رغيف العيش

لا تمتلك الطبقة المتوسطة -ليس جميعهم- والطبقة الفقيرة تقسيم لفكرة الطعام، فالطعام عندهم قوت أساسي ليستقو به على الأعمال الشاقة، إذ أن الفرد منهم لا يستطيع سد حاجة بيته بعمل صباحي واحد، بل يعمل ليصل في اليوم لثلاث ورديات متتالية يتخللها فقط أوقات طعام وصلاة.
والطعام هنا جامع لأمرين أساسيين ليس فيهما البروتين كرفاهية ولا حتى ينظر لها أنها مطلب يحتاجونه، بل الأمر قائم على أكثر ما يستطيع سد هذا الرمق المرهق جدا في الحياة وهما الأرز والعيش، فبهما يغمس كل شيء ويضع كل شيء فيهما ليسد جوعه ويستطيع الانتباه للأعمال الشاقة جدا.
هاتين الطبقتين يحملون شيئا مدعم من الدولة، وهو ما يسمى ببطاقة التموين يأخذون منها الأغذية الأساسية من عيش وحبوب وزيت، وعلى هذه البطاقة منذ وقت كانت للأسرة -لأنه ليس الجميع مالكها حاليا وهناك الكثير حرم منها لأسباب شتى- عشرون رغيفا يوميا يأخذون بحد أقصى حصتهم لثلاث ليال، ولا ننسى وإن جمعت العدد أنه القوت الأساسي وليس رفاهية.
الآن وبعد قرار رفع الدعم عنه وجعل الرغيف الواحد يساوي عشرون قرشا، أصبح حصة العائلة في اليوم خمس أرغفة فقط -ونحن نعلم أن عائلات هذه الطبقات تتعد نسلها وفروعها- فما الذي يريدونه منهم بل منّا جميعا؟
الانشغال بلقمة العيش يطفئ أي قبس داع لمحاولة اصلاح بل رؤية أي شيء في الكون غير هذا السعي المرهق جدا فقط لسد الرمق لا حتى لرفعة شأن أو اهتمام ولو بسيط بالشأن العام، إنهم كانوا وما زالوا يريدون تشتيت قلوب الناس ونزع أي روح تدعو للمثابرة أو الرفض لأي شيء، إنهم يقهروننا حتى لا ننظر إلا تحت أقدامنا.
يريدون للقاهرة -العاصمة الإدارية الجديدة رأس حكمتهم وسدادهم الموهوم ل ديونهم- أن تقهرنا نحن، تقهرنا بتناقضاتنا واختلافاتنا وجهلنا وفقرنا ومرضنا، ويبيتون هم غير مكترثين لشيء.

لم تعد تغريني خطابات التعلم، وأن على المرء بناء ملكه والتربع على الكرسي لأن حاجتي للعلم تغيرت مذ عاشيت الحياة بنفسي وتركت معايش قوم ليست لي. نحتاج لحقيقة العلم لتحصين أنفسنا من الزيغ ولربوع أنفسنا من جدبها وتشتت مواردها، ولأننا في ذات الأمر نحتاج ما يرعى ذريتنا من بعدنا لعلها المنجية لهم في عالم ليس له إلا التقلب والغدر، فالعلم بالله وشريعته الحصن الأخير من تهافت الدنيا.

هو دة الإنسان؟
لأ، دي الآله

هي دي الأوطان؟
لأ، دي سفالة

هي دي الأحزان؟
لأ، دي بقالة
نقفل الدُكان ثُمَّ نحارب

– الطحان رحمه الله

هامش أخير:

دا ناتج عن تشتت التلقي المعرفي، ولم يعد هناك -والله أعلم- ما يضع هذه الأشياء في موضعها الصحيح ويبلغها للناس، بل كلها إشكالات واقعة في تصورات وأسئلة يخافها الناس، فتقام الدروس على الدفاع لا على رسم الصور الصحيحة وإعادة بلورتها في عقولنا ومن ثمَّ الحياة بها في المجتمع.

وليس بعد اكتهال النبت إلا التولي..