في كل فنّ من الفنون تجد أقوالا صحيحة وأخرى فاسدة متروكة لا يلتفت إليها،والأقوال الفاسدة يُنبَّه على فسادها ولا تُقدّم على أنها أقوال معتبرة فاضت بها قرائح العلماء،والإمعان في بيان فسادها واجب على أهل الصناعة خصوصا العلوم الشرعية،فصيانة حياض الشريعة أولى بكثير من التكلّف للأقوال الفاسدة لجعلها منتظمة مع الأقوال الصحيحة،وثمة أقوال بين بين يُنظر فيها إلى مجموع أقوال صاحبها،فإن غلب على أقواله الصواب جاز التأويل لقوله بقواعد الفن بحيث يلقى قوله قبولا يتسق مع تلك القواعد.

البدعة العدمية عند السلفية المعاصرة..

الحكم الشرعي له مقتضيات وشروط وموانع،ولا نزاع في هذا أصلا،وهذه الحقيقة يعبث بها السلفية المعاصرة مع خصومهم الحدادية الذين ولدوا من رحمهم،فالحكم بالبدعة عندهم وُجد مقتضيه عندهم وهو القول البدعي في مسائل الصفات ولكنّ الحكم لم يصدق على بعض علماء الأشاعرة لوجود المانع،وهم في أمر مريج في ضبط هذا المانع،فمنهم من يقول: إنه الجهل،وحينئذ يلزم من وجوده عدم الحكم،فهم يقولون: لا مانع أن يتلبس العالم بالجهل في مسألة ما،وهذا حق لا غبار عليه لكن يتلبس من هو دون العالم أيضا،وعليه يسلم الأشاعرة كافة من بدعة تحريف وتأويل النصوص،ومنهم من يقول: إن المانع هو الاجتهاد،فمن أوتي الاجتهاد فهو بعيد عن البدعة بل مأجور أجر المجتهد،وهذا القول فاسد أيضا كسابقه،لأن المقلد معذور بتقليده المجتهدَ وإلا كانوا كبعض القدرية الذين لا يعذرون المقلد.

حاصل الكلام أنهم يبدّعون عدما كما أن الأشاعرة حسب ما زعموا يعبدون عدما!

باب السمعيات في البحث العقدي له أهمية كبيرة خصوصا المسائل التي وقع فيها الخلاف نحو خلق أفعال العباد وخلود أصحاب الكبائر ومسألة الإيمان ورؤية الله عز وجل وغير ذلك،وفي هذا الأبحاث أحرص على تحرير قول المخالفين من كتبهم العقدية وكتب التفسير،ولا يفوتني قطعا ما كتبه العلامة الزمخشري في تفسيرة نصرةً لمذهبه،وبعد بحث متطاول أجد مشربي دائما مع قواعد ابن عاشور رحمه الله في فهم النص القرآني لا سيما المسائل السالفة الذكر،فالطاهر رحمه الله أوتي قدرة على تحليل النص القرآني معتمدا في ذلك على دلالات الألفاظ عند الأصوليين والقواعد التي ذكرها أهل البلاغة،واللفظ الذي يخفى معناه يقوم بشرحه كأنه يحدّه حدا تاما منطقيا،فالنص عند الطاهر مبيّن جملة وتفصيلا،فهو يبين معاني الحروف ويبين استعمال (أل) سواء للجنس أم للعهد أم غير ذلك،وإن كان ثمّ استعارة فهو يبينها،وإن وقع الفصل في الآيات ذكر سببه سواء كان استئنافا بيانيا أو غيره،سبحان من جمع العلم في قلبه.

رحمه الله رحمة واسعة..

المجاز يكون في الألفاظ والإسناد،واللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة استعارة،والاستعارة تكون في الاسم والفعل والحرف،نعم يكون المجاز في الحرف،فقول القائل في مسائل الصفات: إنّ (في) بمعنى (على) استعارة تصريحية عند التحقيق.

أعمال العباد التي تجعله تحت ضوء الناس أدعى للرياء من غيرها،فمن صلى في جماعة مع الناس لا يدخله الرياء،لأنه استوى مع الناس في الجماعة،فلا مدخل عادة للرياء إلى نفسه،وأما التقدم للإمامة فهو مدخل للرياء إن لم يعصمه الله،لأنه لم يستو مع الناس،وكذا طلب العلم،فلا رياء عادة ما دام مع طلاب العلم لكن إن تقدّم للشرح لم يستوِ مع الطلبة،وعليه فالرياء أقرب إليه وألصق به،وتتفاوت الأعمال في قلة الإخلاص حسب الأحكام التكليفية،فدخول الرياء إلى المندوبات أكثر من الفرائض،لأن الإنسان قد يشعر أنه أتى بزيادة على من أتى بالفرائض.

والمعصوم من عصمه الله..

من الأحكام العادية التي يعرفها العقلاء أن الالتزام بالأحكام الشرعية بعد الانقطاع التام عن التكاليف والاستغراق الكامل في المعاصي يصحبه تشدّد في كل شيء لا سيما التعامل مع المخالف بحيث يبدّع هذا الملتزم الناس خصوصا أعيان العلماء الذين شهد لهم أهل الصلاح بالصلاح ويحكم عليهم بالفسق،فهذا من تلبيس إبليس لأنه يوهم صاحبه أنه أدّى حق الله عليه،فيبدأ حربه مع خلق الله:الصالح والفاسد والعالم والجاهل حتى يلقى الله مستبشرا بدفاعه عن دين الله!

مما يتميز به أهل السنة عن غيرهم أنهم يعتقدون العدالة في الصحابة رضي الله عنه حتى إنهم نصوا على وجوب اعتقاد عدالتهم في كتب الاعتقاد،وفي هذا إشارة إلى منزلة الصحابة عند أهل السنة،ولا يطعن في صحابة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم إلا شاذّ حاد عن صراطهم المستقيم،فيجب على أصولنا الكفّ عما يخدش منزلتهم العلية،ومن يطعن في سيدنا معاوية رضي الله عنه يخالف ما عليه أهل السنة مخالفة ظاهرة لا يُلتمس لها عذر،فمن أراد الطعن في الصحابة فعليه أن يخلع ثوب الانتساب إليهم،وليعلن أنه يختار طريقا يضاد طريقهم لا أن يقول أنا منهم مع طعني بالصحابة!

ما السبب في عدم اتفاق المشتغلين بعلم الكلام والحكمة على أقسام التقدم الخمسة؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اتفق الحكماء على خمسة أنواع من التقدم:
1. التقدم بالزمان
2. التقدم بالطبع (تقدم العلة الناقصة على المعلول)
3. التقدم بالشرف
4. التقدم بالرتبة
5. التقدم بالعلية (تقدم العلة التامة على المعلول)

إلا أن «التقدم بالعلية» و«التقدم بالطبع» يشتركان في معنىً واحدٍ يسمى: «التقدم بالذات» وهو كون المتأخر مفتقرًا إلى المتقدم افتقارًا ذاتيًا؛ فعلى هذا كان ينبغي أن تكون الأقسام الأولية للتقدم أربعةً لا خمسة، ولكنهم لم يكتفوا بالقدر المشترك بين النوعين -وهما ما بالطبع وما بالعلية- لينحصر التقدم في أربعة، ورغم أن التقليل في الأقسام يراعى دائمًا لكنهم لم يراعوا ذلك، ولطالما لم يفعلوا ذلك صحَّ لكل من يرى أدنى اختلاف بين هذه الأقسام المشتركة أن يفرِّعَ قسمًا آخر على هذه الأقسام، وهذا ما فتح الباب لكثير ممن أتى من المتأخرين سواء من الحكماء أو المتكلمين أن يفرعوا أقسامًا جديدة للتقدم.

هذا والله أعلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انظر:
1. شرح الميبذي على هداية الحكمة ص136، طبعة ميراث مكتوب
2. شرح ملا صدرا على هداية الحكمة ج2ص30، طبعة انتشارات بنياد حكمت اسلامي صدرا
3. شرح عبد الحق الخير آبادي ص304، طبعة دار النور المبين

تقدير العلماء وتبجيلهم لا يمنعنا أن نصف أقوالهم بالبدعة،فالمعتزلة منهم علماء خدموا الشرع الشريف بمصنفاتهم البديعة،فأودعوا فيها حقا وباطلا،وأما الحق فليس الكلام فيه،وأما الباطل فيجب إنكاره ودحضه ثم نشير إلى الحق المبين الذي عليه أهل السنة،ومن قلة البضاعة في العلم أن نُسلّم كل ما قاله العلامة الزمخشري في تفسيره،فقول المعتزلي بالقدر مردود وتخليد أصحاب الكبائر مردود وإنكار بعضهم للميزان والصراط مردود،والقول بوجوب ثواب الطائع وعقاب العاصي مردود،وهذا الرد بالحجج القاطعة والبراهين القاهرة،فقد رأيت بعض المشتغلين بعلوم اللغة أصابهم سحر البيان للعلامة الزمخشري فاقشعرت جلودهم حتى خشوا بيان مخالفته لأهل السنة،وهذه النفس ضعيفة لا يمكن أن تحق الحق وأن تُبطل الأقوال الفاسدة،فالشر كل الشر أن تذوب في عالم لأجل إتقانه علما من العلوم،فالشهادة له فيما أحسن والإنكار عليه فيما أساء،فلا نبخس الناس أشياءهم ولا تخضع أعناقنا إلا لقول الحق.