من بين كل ما يعرض الناس نفوسهم عليه، لا شئ يكشف ذبول الروح، وخواء المتجه، خفة العلم وعبودية الالتفات وتوسل الرضا، مثل الكتابة…

كان هذا الألم مغبة الإيمان وعاقبة كل ما آسينا عليه، كلفة الحب والانتماء، والمعنى، مآل الرفض وعزم المنفي ألا يُنفى مرتين وأن تكون له ناصية الحكاية وميراث الأرض للقادمين بعده.

كان هذا الألم ثمن كل ما استحق أن نعيش له وما ارتضينا أن نشقى لأجله.

يترصدون للمقاومين الزلة، يهددونهم بسحب دعم لم يقدموه أصلا، وفقدان تعاطف لم يشعروا به قبلا، وضياع نصرة لا يعتقدون أن المقاومة وأهل غزة تنطبق عليهم شروطها.
يمنون عليهم دعم الفتات وإملاء الشروط ليصطفوا معهم.
والحقيقة أنتم لم تكونوا في الصف يوما، كي تخرجوا منه غضبا لتصريح أو شكر.

التطاول الذي يتعرض له المصريين من وطنجية الأردن وسوريا مؤخرا على خلفية خلافات سياسية "من معايرة بالفقر والتدهور العام واستعارة مصطلحات وطنجية الخليج من احتقار عادات المصريين وتقاليدهم، نمط أكلهم وملابسهم، لهجتهم وكلامهم هذا غير المغالطات التاريخية الساذجة"

وإن تعددت أسبابه إلا إن من أهمها،

الرغبة في الخلجنة المصححة "تمثل نفوذ الخليجي المعاصر وهيمنته بالمال لكن بتاريخ وحضارة عريقين"
واستبطان تفوق ونجاح النموذج الخليجي، والسعي للتشبه به لكن أيضا مع التلويح بالانتماء الحضاري القديم مما لا يدع للمصريين مجالا للمحاججة.

وكل هذا الكبر -على بؤسه- كان ليكون مفهوما لو لديهم ما يكفي من الإمكانيات والظروف،
أما والحال كما هو عليه، فتقوى الله خير، ودعوها فإنها منتنة والله.

منذ يومين تقريبا صدر هذا التصريح عن المجرم الأول في الكيان: لقد حصلنا على اتفاقيات أبراهام "صفقة القرن" لأننا تجاوزنا الفلسطينيين.
وهذا بالضبط هو سبب الطوفان الأول، من بين كل الأسباب الأخرى التي يبحثها من يرونه عملا عبقريا أو من يرونه خطأ استراتيجيا فادحا،

حين قررت المنطقة كلها تجاوز الفلسطينيين وكأنهم لم يكونوا شيئا، لم يعد أحد يسألهم عن مصيرهم، ولا يشركهم في حوار أو يأبه لردود أفعالهم،
حين تواطئ الجميع على التعامل معهم كحلم ليلة صيف في عيني طفل، بعيد خفي ومنسي، شرخ بسيط في تفاصيل فسيفساء عظيمة، يمكن رتقه ببعض الترميمات الجذرية بينما تنطلق المنطقة إلى مستقبل زاهر مبهر وسعيد خالٍ من الأسى والنزاعات والقضايا العالقة والإنسان والتاريخ، يستثني بلاد القهر والمقاومين الذين ماتوا جوعى "قتلهم الرصاص ولم يهزمهم الجوع".

مستقبل ناصع أملس ملئ بناطحات السحاب والشركات عابرة القارات والإنفلونسرز وخدمات المرافقة والأماكن السياحية المصنوعة والآثار الموضوعة،
منطقة جغرافية كاملة تتحول إلى فندق كبير يقدم فقرات ترفيهية تشمل البشر والتراث والأرض.

ولم يقبل السيد هذا المصير، كان الطوفان استحقاق الوجود، نحن مازلنا هنا، ليس لاستجداء العطف على الأقفاص المحاصرة بل للمقاومة وحق الحلم وعبور البحر وكسر الأغلال واستعادة الأرض،

لقد ضيّقًوا على المحاصرين الخناق لخفض سقف مطالبهم
فهدم الطوفان السقف ذاته على رؤوسهم.
وإن كانوا أفسدوا على المحاصر دنياه، فسيفسد عليهم آخرتهم.
وإن استبطن الجميع التخلص منه فلن ينعم أحد منهم بجنته الموعودة.

ستفضح هذه المدينة كل المطبعين، وستُخزي كل المنسقين وستكشف حقيقة كل المفرطين والمتنازلين.

وقد فعلت يا سيد، فضحتهم وأخرجتهم من مخابئهم لتصبح مشاهد إذلالهم عرضًا حيًا مسجلًا عيانا، شاهدًا عليهم بلا فسحة للهرب أو التحجج بعدم عدالة الشهود أو ظلم التاريخ…

بمناسبة الاغتيال المعنوي الذي يتعرض له أ. عبيدة الغضبان من بعض النشطاء في سوريا، لو كان هناك ما هو ثابت في الثورات كلها مهما اختلفت سياقاتها فهو أن الثورات تأكل أبنائها.

لن تكون أبدا ثوريا بما يكفي، هناك دوما من هو أكثر منك ثوريةً ونقاءً، مهما بذلت وضحيت سيأتي من يطردك خارج الصف الثوري ويتهمك بالردة والتلوث.

بعد تعيين أ. عبيدة مديرا للأبحاث والدراسات بالمعهد الدبلوماسي بوزارة الخارجية السورية، تولى "الثوار" مهمة التفتيش في حسابه بتويتر للخروج بدليل الإدانة "الثورية" وقد كان؛
حيث كتب ما معناه: أنه يتفهم من يقدّرون دور الحزب في جبهة الإسناد إلا إنه لا يجب إغفال ما صدر منهم في سوريا!
ثم قامت وزارة الخارجية السورية بدعوة أ. وضاح خنفر في مؤتمر ولم يكن من دور لأستاذ عبيدة إلا التقديم له!

نعم هذا ما فعله أ. عبيدة وقد كان كافيا لتشويهه وتشويه كل عمل يُقدم عليه ووضعه في إطار المحورجي الإخوانجي المتأيرن!

هناك الكثير مما يمكن قوله على ما يحدث هناك إلا أنه لا يمكن إغفال حقيقة أن منهم من لا ينقم عليه نقص ثوريته، بل اتساع انحيازاته وانتماءاته للأمة وقضاياها خارج إطار الوطنية الثورية الخانق.

كل ما عابوا عليه حماس، لم يكتفوا بفعله بل زادوا عليه ما هو أسوأ.
الآن يشتد السعي لإقامة علاقات مع الدول التي قصفتهم ووطدت حكم السفاح، ولا ضرر من الجلوس مع قاتل العراقيين ولا خجل من حمل نواب الكونجرس المتورطين في الإبادة على الأكتاف، ولا مواربة في طلب الدعم من دول الاستبداد والظلم التي قضت على الربيع العربي في الدول المجاورة.
الآن نتحدث بلغة السياسة والمصالح والرخص وأحكام الضرورة وفسحة المضطر.

ولا ضير في هذا، فالحال شديد التعقيد والصعوبة، لكن فيم كانت سنوات التخوين والمزايدة الأخلاقية والتشكيك في العقيدة وتبرير الخذلان لمن كانوا أكثر حاجة واضطرارا.

فيم كانت اتهامات التأيرن السياسي لكل من أنصف وشكر جبهة الإسناد رغم محاربة مواقفهم الأخرى.
فيم كانت سنوات التنظير عن توثين القضية وقداسة الدم الفلسطيني.

والآن لم نعد ندري أي دم صار مقدسا وأي قضية صارت صنما.

مما حاولنا تجاهله لفترة طويلة أن هناك عائلات كاملة اضطرت للتفتيش في ٢٧ ألف صورة من ملفات قيصر، للتعرف على وجوه ذويهم بين ركام العذاب الخالص.

أن تعرف أن ابنك أو أخاك أو زوجك أو أباك أو قريب لك، قد كابد من الألم ما لا يطيقه أحد، وكل ما تأمله ألا يُحرم من وداع لائق أو حق الثأر في الدعاء.

أن تنظر في عين الوحش وتحدق مرغما في الهاوية عالما أنك لن تعود أبدا كما كنت قبلا، فقط لقطع حبال الانتظار القلق، ونيّل خاتمة لا تجلب أي عزاء.

"كان عدد السكان الأصليين في الجزائر يقارب 6 ملايين نسمة عام 1830، ولكن بحلول عام 1852، وبعد حرب الإبادة الفرنسية الشاملة، بما في ذلك سياسة الأرض المحروقة والمجاعة التي أعقبتها، انخفض العدد إلى 2.5 مليون نسمة."*

*كينيث جود، “الاستعمار الاستيطاني: التنمية الاقتصادية وتشكّل الطبقات”، مجلة الدراسات الإفريقية الحديثة 14، العدد 4 (ديسمبر 1976): ص 599.