سُئل الإمامُ أحمدُ: هل كان مع معروفٍ الكرخي شيءٌ من العلم؟ فقال: "كان معه رأسُ العلم: خشيةُ الله". وذُكِر مَرَّةً في مجلسه فقال بعضهم: إن معروفًا قصيرُ العلم .. فقال الإمام أحمد: "أمسِكْ عافاك الله؛ وهل يُراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف!".

لعبيد بن عبد العزى السلامي -وهو شاعر جاهليّ غاية علمنا عنه أنه ابن عم الشنفرى:

"وأُعرض عن أشياء -لو شئتُ نِلْتُها-
حياءً إذا ما كان فيها مَقاذعُ

ولا أدفع ابنَ العمِّ يمشي على شَفا
ولو بلغتْني من أذاه الجنادِعُ

ولكن أواسيهِ وأنسى ذنوبه
لترجعَه يوما إليّ الرواجعُ

وأُفرِشُهُ مالي، وأحفظُ عيبَه
ليسمع أني لا أجازيه سامعُ

وحَسْبُكَ من جَهلٍ وسُوءِ صَنِيعةٍ
معاداة ذي القربى؛ وإن قيل قاطعُ

فَأسْلِمْ عناكَ الأهلَ؛ تسلمْ صدورُهم
ولا بد يومًا أن يروعَك رايعُ

وإن تُبلِ عفوًا يُعف عنك، وإن تكن
تقارع بالأخرى؛ تُصبْكَ القوارِعُ

ولا تبتدعْ حربا تُطِيقُ اجتنابَها
فيلحمك الناسَ الحروبُ البدايعُ"

وهذه أبياتٌ منطويةٌ على نفسٍ جليلة تعرف ما ينبغي أن تكون عليه العلائق الاجتماعية من تغاضٍ وتسمُّح في بعض الحقوق، و"تكبير راس" كما يقول العامة اليوم.

ولا تمرّ بي أمثال هذه الأبيات الجاهلية إلا وأستذكر قول أبي تمّام:

"ولولا خلالٌ سنَّها الشِّعرُ ما درى
بُغاة العلا من أين تُؤتى المكارِمُ"

ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «… ورأيتُ رجلًا من أمتي يزحف -أو قال: يرجف- على الصراط مرة، ويجثو مرة، ويتعلق مرة؛ فجاءته صلاته عليَّ فأخذت بيده فأقامته على الصِّراط حتى جاوز…»

فاللهم اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، ورأفة تحنُّنك ومحبتك وتحياتك؛ على محمد عبدك ورسولك، الخاتم لمن سبق، والفاتح لما استغلق؛ بَعِيثك نعمة، ورسولك إلينا بالحق رحمة؛ يارب العالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
شيٌّ من مسيرته
ووَشيٌ من فصاحته

فصول مُستلّة من:
«تاريخ الأدب العربي»
لأحمد حسن الزيات

من أعظم ما يمحق بركة العلم؛ أيَّ علمٍ: الولوجُ إليه بدسيسةِ نفسٍ تُضمر خطأه والاستدراك على أربابه، ولا شيء أعظم في البركة من: نيةِ الانتفاع به وإحسان الظن بعلمائه.
ويا كم شقيَ ذكيٌّ بالأولى، ويا كم سعد بليدٌ بالثانية!

ومن كلام العلّامة العمريطي -رحمه الله- في خطبة «الدرة البهية»:

"سُئلتُ فيه مِن صديقٍ صادِقِ
يفهمُ قولي؛ لاعتقادٍ واثقِ

إذ الفتى حسب اعتقاده رُفِعْ
وكلُّ مَن لمْ يعتقد؛ لم ينتفعْ"

يقصد أن الذي حداه إلى سبك نظمه هذا: إجابةُ سؤالِ صديقٍ صادقٍ في طلب العلم؛ وهو ممن يفهم كلامه؛ لأنه يعتقد فيه النفع بثقة .. ولا غروَ فإنما يرتفع الفتى بطلب العلوم حسب اعتقاده فيها وفي مؤلفيها، وكل من لم يعتقد النفع هكذا فليس أهلا للانتفاع.

أخرج مسلمٌ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ الصيام بعد رمضان؛ شهرُ الله المحرّم".

وفي هذا الحديث: فائدةٌ، ونكتة.

فأما الفائدة فقول الإمام ابن رجب رحمه الله في «لطائف المعارف» -بتصرُّف: "إن التطوع بالصيام نوعان:
أحدهما: التطوع المطلق بالصوم؛ فهذا أفضله: صيام الأشهر الحُرُم، وأفضل صيام الأشهر الحُرُم: صيام شهر الله المحرم.

والثاني: ما صيامُه تَبَعٌ لصيام رمضان قبله أو بعده؛ فهذا النوع من الصيام يلتحق برمضان، وصيامُه أفضل التطوع مطلقًا".

فأكثروا من الصيام في هذا الشهر؛ لا سيما عاشرَه مع تاسعه؛ فإن له فضيلةً عظيمةً وحُرمةً قديمةً.

وأما النُّكتة فهي سرّ إضافة المحرم من بين سائر الشهور إلى الله تعالى، وذلك ما أفاده الجلال السيوطي رحمه الله في «المزهر» من أنّ العربَ كانت تسمي المحرم: صفر الأول، وتسمي صفر: صفر الثاني؛ فلم يكن المحرم معروفًا في الجاهلية بهذا الاسم؛ فلما جاء الإسلام وأبطل النسيءَ سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: شهر الله المحرّم؛ فاختُص هذا الشهر بهذه الإضافة الشريفة من بين سائر الشهور حتى رمضان؛ لهذه المزية.

يا ليت أنّي لَدَيْهِ
عبدٌ بِطَوعِ يَدَيْهِ

أفديه روحي وأفدي
بأَعيُنيْ نَعلَيْهِ

إنّي أتوقُ إلى أنْ
أرى سَنا عينَيْهِ

يهفو فؤادي ليُصغي
إلى صدى شفَتَيْهِ

ظمآن أرجو ارتواءً
بشربةٍ من يَدَيْهِ

وهل أُلامُ بشوقي؛
والجِذع حنّ إلَيْهِ؟

هو الحبيبُ المُرجّى
يا رب صلّ علَيْهِ

ورد في الصحاح أنّ هرقلَ سأل أبا سفيان بن حرب عن قتالهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأجابه: أن الحرب سِجَال ودُوَل؛ ينال منهم وينالون منه .. فقال هرقل: فكذلك الرُّسل؛ تُبتلى ثم تكون لهم العاقبة.

فأبشروا بعقبى الخير ما تمسّكنا بالرسالة، ونحن الأعلون وإن دالت دولة الأسافل ظاهرًا، فهذه سنة الله مذ برأ الخليقةَ وتدافعَ الحقُّ والباطل.

ولا يعزبنّ عنكم أن المسلمَ مفتّلُ ربطِ الجأش عند النوائب، راسخُ القدم لا تقلّبه الأحزانُ ذات اليمين وذات الشمال؛

"ونفس الحُرّ تثبت للعوادي
وإن كانت ممزّعة الأديمِ

فما تدري الثباتَ سوى الرواسي
ولا تذرو الرياحُ سوى الهشيمِ".

والله غالب على أمره.