قل لنا عن الأشياء التي لم تتعرض للصدمة فيها في هذه الدنيا.

إذا كان إنسان ما يعاملك بقدر من الجفاء أو عدم التقدير أو الاستخفاف، وجاءت لحظة تتفرق فيها الوجوه، بسبب السفر أو بأي سبب آخر، قد تدفعك الطيبة الزائدة لأن تجعل الوداع ثريًا بالعاطفة، أن تهتم به وتحتضنه، أن تترك له أي ذكرى منك يحتفظ بها، أن توصّله بسيارتك، كأنك تعاتبه بطريقة ما على أنه لم يقدر نوازعك الإنسانية؛ وأنا أنصحك ألا تفعل، رغم أن هذا يبدو من السماحة وكرم الأخلاق، ذلك لأن الذي لم يقدرك وأنت في وجهه لن يقدرك وأنت بعيد عنه، وسيرجو أن آخرًا يقوم بتوصيله.
ويحضرني في هذا المقام قول رجل بدوي سعودي، بدت لي كلماته بسيطة جدًا، لكن بعد أن سمعتها وتأملت فيها وجدتها عظيمة، قال الرجل: أنا أحب الإبل، وذلك لأن الجمل كبير عند نفسه، يحب من يحسن معاملته، ولا يحب من لا يحسن معاملته، ولا يسأل عمن لا يسأل عنه، هكذا بكل بساطة، وليس فيه شيمة بعض المخلوقات وبعض البشر من التمسح فيمن لا يريدونهم ومحاولة استدرار عواطفهم، ولا يحاول أن يفهم لماذا لا يحبه من لا يحبه.

لو اخترت أن تأكل الحلال وحده، ستجد من يرغب في أن يراك وأنت تتضور من الجوع أمامه؛ تأديبًا لك على أنك لم تضعف مثلما ضعف.

بعيدًا عن عواصف التباغض التي تهب هنا وهناك، قل شيئًا ما أعجبك في شعب ما، ولفت انتباهك، وجعلك تشعر بالتقدير تجاههم بسببه، شيئًا من طباعهم أو عاداتهم أو خصالهم. الكلام هنا ليس عن تقييم عام لهذا الشعب، ولكن تقييم بسبب نقطة هم حسب ما رأيت متفوقون بها.

ومكتوب على الخائف المحزون الذي خرج من بلاده لاجئًا، بعد أن اضطرمت فيها النيران، وهلك فيها من هلك من أحبابه، مكتوب عليه إن كان فقيرًا قليل الحيلة متواضع الأحوال، أن يحتقر الناس فقره، ويحتقرون هيئته وهو يسير فقط في الطرقات، ويرغبون في طرده باعتباره عالة وغير لائق ويثير الشعور بالشؤم.
ومكتوب عليه إن كان واقعيًا حسن الأحوال لا يبدو عليه أثر الهروب والهزائم وفقدان الأحباب، أن يشعر الناس بالاستفزاز منه، ومن ثباته وحسن تجارته وعدم التفاته للخلف، ويرغبون في طرده بدعوى أنه وغد ومتسلّق وبائع بلده ويزاحم أبناء البلد في أرزاقهم.

ومكتوب على الخائف المحزون الذي خرج من بلاده لاجئًا، بعد أن اضطرمت فيها النيران، مكتوب عليه إن عاش في بلاد الله الجديدة على سجيته وعاداته ورفَع صوته بلهجته وتقرَّب ممن هم من أصله، أن يشعر الناس بأنه وقح ومتطاول ومثير للاستفزاز.
ومكتوب عليه إن اختار أن يحب البلاد الجديدة، وأن يتقرب من أهلها، وأن يندمج بينهم، وأن يلتقط من لهجتهم، أن يشعر الناس بأنه لئيم ووصولي ويحاول أن يتنكَّر كي لا يلحظ اختلافه أحد.

مكتوب على الخائف المحزون الذي خرج من بلاده لاجئًا، بعد أن اضطرمت فيها النيران، أن يضع وجهه في وجه العنصرية البشع، أن يتعجب من قسوة الناس، الذين يرون أن تكلفة عملية ولادة تعطي لابنهم الحق في الحصول على الجنسية الأمريكية، لكن لا يرون أن الهروب من الاغتصاب والتعذيب والتحريق يعطي لأحد عندهم حق أن يسكن بالإيجار في شقة بالطابق الأسفل منهم إلى أن تتحسن الأوضاع.

قبل أن تؤنب إنسانًا بشدة، انظر جيدًا في وجهه، لعل عينيه تفضح لك المخبوء، وتكشف لك اللمعة الحزينة أنه يؤنب نفسه كثيرًا جدًا، يكاد يهلكها تأنيبًا. قبل أن تؤنب إنسانًا بشدة، انظر جيدًا في عينيه، فلعلك تجد نفسك أمام إنسان فيه شيء يستغيث، فيه شيء في أعماقه يصرخ: يريد من أحد ما أن يشير إلى نقطة جميلة فيه يمكن يبدأ من عندها صلحه مع ذاته، يريد من أحد ما أن يأخذه من يده برفق خارج تلك البقعة المعتمة التي يلف فيها حول نفسه كالمخبول، ويعرّفه على بداية الطريق.

لا يوجد ما هو أثقل من جثمان طفل يحمله أبوه بعد أن مات في القصف، لا يوجد أثقل من تلك البراءة التي ظلمها هذا العالم.

ما الذي وجدت فيه لذة ربما لا يعرفها كثير من الناس؟
ما الذي يهبك عند القيام به راحة غالية وتعتبره نعيما في هذه الدنيا؟

بدلا من التفكير في قرارات خاطئة اتخذتها منذ سنوات، فكر في التصرفات الحكيمة التي يمكن أن تقوم بها بالغد.
بدلا من أن تعد الذين خذلوك والذين خدعوك في التجارب البعيدة، فكر فيمن يمكن أن تتعاون معهم في النهار القريب.
بدلا من أن تحاور في خيالك الذين أصدروا عليك أحكاما قاسية ومضوا، فكر في الذين يمكن أن تدهشهم وتجعلهم يرون منك ما يسرهم في أقرب فرصة.

أحلامك التي شغلتك عمرًا ولم تتحقق، تحب أن تطلق سراحها كأنك تفتح قفصًا لسرب من الحمام، وتبتسم وتتقبل الحياة، أم أنك تعتز بها لدرجة أن تختار أن تبقى حبيسة ذاتك وتتكلم عنها كل حين؟
هل تعطي ظهرك لما استعصى عليك، أم تظل تتأمل فيه؟