ومضات - ١٣١ * عبيد الرجال بدافع الاِباء والاِستياء والشجب، أذكِّر الأحرار - والأحرار فقط - بحقيقة ثقيلة، هي أن الحرية الحقّة حالٌ يتجرد فيها الفرد من كلِّ قيد أو حجز أو استِرقاق، بحيث يعبر عن ما يريده، ويختار ما يريده، ويفعل ما يريده. ويتصف بها الإنسان بمقتضى…

فقد لا تؤيدك علوم الدماغ اليوم ولا علوم الأعصاب ولا التحليل النفسي في اعتقادك أن بالإمكان الوصول إلى العصمة العقلية والكمال النظري والكمال الأخلاقي، فتلك غايات تواجه تحديات كبيرة قد لا يسلم العلم بإمكانية تجاوزها.
فهذا نداء ودعوة إلى الطلبة الشجعان والأحرار، لأجل الاقتداء بأرسطو وسائر أهل الفضل، لبدء ثورة في أنفسهم، تستهدف طرد ثقافة الاتباع والخضوع والتماهي، وإحلال ثقافة الحرية والاستهانة بالخطر والإقدام بعزم وبأس.

ومضات - ١٣١

* عبيد الرجال

بدافع الاِباء والاِستياء والشجب، أذكِّر الأحرار - والأحرار فقط - بحقيقة ثقيلة، هي أن الحرية الحقّة حالٌ يتجرد فيها الفرد من كلِّ قيد أو حجز أو استِرقاق، بحيث يعبر عن ما يريده، ويختار ما يريده، ويفعل ما يريده. ويتصف بها الإنسان بمقتضى جوهره بما هو كائن عاقل ذو إرادة منفصلة، وهي النعمة العظمى التي لولاها لما كان لوجود الإنسان ولعقله ولإرادته أيّة قيمة.

ومقتضى إرادتك المنفصلة - أي التي تختص بها أنت ويصدر عنها فكرك وقرارك وفعلك الشخصي - أن تعبّر عن ذاتك أنت، لا عن فكر وقرار وفعل شخص آخر. ولو زعمت أنك كنت حرًّا في جعل نفسك صورة لذلك الشخص، فأنت بذلك تمارس حريّةً مستعارةً ومجازيةً، وتلبس قناعًا يغطي تقليدًا خفيًّا أرقى من التقليد عند جمهور الخاضعين قليلًا.

ثم إن تسخير الحرية في التفلسف يعني أن يقوم الإنسان بنحوٍ خالصٍ من العبودية بالبحث والتعلّم والاختيار، بحيث يقضي قراره الفكري والأخلاقي من تلقاء نفسه، لا مأسورًا بشخص أو قولٍ يجعله تابعًا بشكلٍ طوعي، أو بإكراه مغلّف عبر الترهيب من الاختلاف والتمرد والتنوع، أو تهويل الخروج عن الخيارات المحددة، أو بلعبٍ على حاجته للشعور بالانتماء إلى وسط يحترمه ويعمل هو في خدمة قضاياه، أو حاجته إلى الصداقة والحب، أو سائر الطرق التي تعطل إرادته الخاصة في الاستكشاف واختيار الطريقة الفلسفية التي تلبي إرادته.

وهذا حال الفلاسفة السابقين لو علمت، فلم يكن أرسطو - مثلًا - إلا عالِمًا ثائرًا، ولم يكن متماهيًا مع أحد ممن سبقوه، ولم يأسره أحد، ولم يخشَ التمرد والاختلاف، ولم يكن مواليًا لرجل ولا تابعًا لرجل قط. وكذلك سائر العلماء البرهانيين الذين أخذوا علمه، ودليل حرّيتهم هو التنوّع والتطور، حيث لا نسخة أخرى من أرسطو، ولا تماهي مع أرسطو ولا ولاء ولا تقليد، بل استكشاف أكثر وتطوير أكبر وفهم أعمق وقول أفصح. لكنَّ الكثير من الفلاسفة وطلاب الفلسفة اللاحقين - في العالم الإسلامي حصرًا - لا يرون هذه الصورة النقية والمهيبة من الحرية، بل زجّوا أنفسهم في الأسر والتماهي وإلغاء الذات، عبر الاعتكاف على مناهج وعلوم أرسطو بطريقة انتقائية مأساوية، ليس للإستعانة بها في تطوير العلوم والصناعات كما فعل الطوسي وابن الهيثم وابن سينا والكندي وغيرهم، بل لدراسة وتدريس المنطق والفلسفة بشكل أساسي ولنهاية العمر، ودراسة العلوم الطبيعية لفترة محدودة، تلك العلوم التي اشتهر عن أرسطو أنه اشتغل فيها وكتب عنها أكثر من المنطق والفلسفة، لبليغ تأثيرها في حياة الإنسان وبناء وتطور الحضارة. وكانت نتيجة هذا الولاء والخضوع للأسر العلمي والاعتكاف هي تخلف الأجيال اللاحقة وعجزهم عن الخروج من التأخر العلمي. ولا أزعم أن ذلك بسبب أرسطو، - فهو حتمًا كان سيشعر بإحباط كبير لو علم أنهم لا يزالون يدورون في نفس الدائرة، وأن كتبه لم تدفعهم إلى التقدم والتطور، فلم يكن ليرضى بقول أحدٍ أن أرسطو لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض وأنه ترك علمًا كاملًا لا ينقصه شيء - بل أزعم أن هذا حال أوصلنا إليه المتصوفة والمتكلمون والأخباريون وأصحاب الملا صدرا أيضًا، فلم يكن أيٌ منهم حفيًّا بالعلم الطبيعي كما كان أرسطو. وقد ورث الفلاسفة المتأخرون وكثيرٌ من المعاصرين أيضًا هذا الحال التعيس، فبعدما كان الفلاسفة يكتبون اليسير في المنطق والفلسفة ويتفرغون للفلك والرياضيات وعلوم الحيوان والهندسة وغيرها، تحول بفضل الانجرار خلف قافلة المجادلين إلى موسوعات وكتبٍ ضخمة لا حصر لها في المنطق والفلسفة، وشيء يسير قد لا يذكر في الطبيعيات.

ثم إن هذا يجرُّنا إلى الحديث عن صورة أعمق في الولاء والعبودية والتقديس للرجال، خاصة أرسطو وسائر من ينتهجون نهجه، هي الجمود على منهجه العلمي وأفكاره، والاكتفاء بفهمها، ظنًّا أن هذا هو السلوك العلمي الحقيقي، وليس السعي إلى الاستكشاف الذي قد يغير وقد ينسخ ويرفع ويلغي. ولنضرب مثالًا بالأصل الذي أقام عليه أرسطو صرح الأخلاق، وهذا الأصل هو ما تشكله معرفته بالنفس الإنسانية من مبادئ. فإن بحث النفس عند أرسطو، والذي لم يتطور أبدًا على أيدي لاحقيه - إلا في مسألة إثبات النفس وتجردها - كان بحثًا محدودًا بما يتناسب مع غاية أرسطو، وبمقتضى أساليب عصره السحيق. ولم يسعَ المتأخرون وأتباعهم من أبناء عصرنا الحالي إلى التوسع في استكشاف النفس الإنسانية، وبأساليب هذا العصر التي لم يعرفها أرسطو ولا غيره ممن كتبوا في علم النفس الفلسي. فعلوم حديثة مثل علوم الأعصاب والدماغ والاجتماع والتحليل النفسي وغيرها، تكشف الكثير عن هذا الموضوع، وما تكشفه مغاير بشكل كبير عما توصَّل إليه أرسطو، بل يضاده ويناقضه في أحايين كثيرة، وقد يؤدي التثبت منها إلى تغيّر معالم بحث النفس في الطبيعيات، وقد ينسف أفكارًا كبرى تم التصديق بها قامت على أساس الأصول المستفادة من بحث النفس، مثل أن الإنسان له جنبات عدة يملك القدرة على إحراز كمالها وتمامها، وهي الأخلاقية والنظرية والبدنية.

• خلاصة الدروس السابقة
• الأشياء التي تُقصد من عمل العقل
• المفاهيم الأولية والمعقولات المنطقية
• المعاني وأنواعها والتسلسل في إدراكها

ومضات - ١٢٦

المتعصب لا يريد الحقيقية، بل يريد الإحتفاظ بالإنتماء.

• أسئلة الدرسين السادس والسابع

فوائد علميّة - ٥٧

قال أرسطوطاليس: " من أراد أن يشرَع في طلبِ هذه المعارف[الإلهية] فليستحدِث لنفسه فطرة أخرى ". - فخر الدين الرازي

أقول-أخذا عن الأستاذ محمد ناصر-: لا يبعد أن يقال أنه ليست الحكمة الأولى إلا استحداث فطرة أخرى، وفحص ذلك أن الفطري -بمعنى الطبيعي- مشوب بالنقص والخلط إذ ليس وجود اللحاظ التفصيلي المميز لما يكون مختلطا بالأشياء وجود طبيعي بل هو حالٌ مضاد للطبيعة، ومن ثم عند فحص هذا الخلط يظهر لنا وجه قول المعلم، إذ الخلط الذي في المعارف الإلهية ليس من قبيل اختلاط أجزاء الحد بموضوعات المحدود كما في الطبيعة بل هو خلط أعلى مرتبة وهو اختلاط أثر أفعالنا الذهنية على الأشياء بالأشياء أنفسها، بحيث يظهر لنا عند المعاينة العقلية للشيء أن الشيء عند معاينتنا هو بعينه الشيء في نفسه، والحال أن نفس معاينته توجب إنفعاله بالمعاينة، ومن ثم تحدده بحد يغير ما يُظهره لنا الشيء، فلا نقع في الخطأ فقط بل يبدو لنا مع ذلك أن حكمنا ضروري، ولا نجد قدرة على دفع شعور الضرورة والحال أن هذا الشعور كان  إثر استحواذ الحال الوهمي المتمثل بأخذ الشيء وهو منفعل عن افعالنا الذهنية على أنه بعينه الشيء في نفسه، فتحصّل من هذا أن غرض الفلسفة الأولى ليس إلا النقلة النوعية في طبيعة إدراكنا للأشياء بحيث نقف على ما يأتي من أنفسنا كمانع للحكم الصادق فحاله كحال التخلص من القفاز اللزج بحيث أنك إذا أردت أن تمسك الأشياء وضعتها في حالة لزوجة و غيرت من طبيعتها، وهذه النقلة النوعية هي ما يسمى باستحداث الفطرة، وهذه المهمة على بساطتها -إذ هي تضع الحق على أنه امام أعيننا طوال الوقت- غير أن القيام بهذه المهمة البسيطة يتطلب تغييرا كليا في نفس القائم بالمهمة، واحدس منه سبب كون الحكمة الأولى علما تربويا لا أكثر.

- محمد بُوهَلُّو

طبيعة علم الالهيات تفرض على محصله من طريق الاجتهاد لا التقليد مؤهلات خاصة وقيود منهجية في السلوك المعرفي كالاقتصار على البرهان العقلي، وهذه المؤهلات لا تنسجم مع الحالة التلقائية للإنسان وأنسه بالمحسوسات على الصعيد النظري أو العملي لذلك قال بعض الحكماء أنه من أراد ذلك العلم فليستحدث لنفسه فطرة أخرى، والمقصود هو التجرد عن العلائق المادية في السلوك المعرفي الاعتقادي والسلوك العملي النزوعي.

وعليه فإن العلم الإلهي حاله كحال بقية العلوم من جهة كونها لا تنال إلا من طريقها المنسجم مع موضوعها وطبيعة مسائلها كالعلم الرياضي فإنه لا يُحصل من طريق التجارب المخبرية وكذلك العلم الطبيعي فإنه لا يحصل من طريق العقل المحض بل بتعاضد العقل والتجربة الحسية، وكذا العلم الالهي فإنه لا يطلب إلا من طريق البرهان العقلي لأن موضوع الالهيات خارج عن دائرة الحس والوهم، وعلى هذا الأساس لطالما كان المحققون والمجتهدون في هذا العلم هم خاصة الخاصة وصفوة الناس لما يقتضيه البحث فيه من التجرد العقلي الشديد الذي هو حصيلة الارتياض الطويل بالمعقولات والتجريد النفساني.

أما المِلل الإلهية لما اقتضت أوائلها معرفة الله لا من طريق الوراثة الاجتماعية أو تقليد الآباء والأعيان، قد جعلت الحد الأدنى المحرك للقوى الإيمانية هو ما ينشأ عن أوائل العقل الفطري الذي رُكب في الإنسان واشترك في إدراكها جميع الناس على طبقاتهم واختلاف استعدادتهم فلم يكلفهم إلا بما تعينهم عليه اوائل ما عندهم من العقول وحثهم من ضروب التفكر والنظر في المخلوقات ما يُنيرها ويثير دفائنها، لذلك فإن التكليف التشريعي قد وقع بتحصيل الحد الأدني المؤثر في الجنبة النزوعية والذي عليه المعول والنجاة في الآخرة، أما دقائق الربوبيات وخبايها المكنونة فهي من نصيب الحكماء المجتهدين والعلماء المحققين وهم خبرائها ومراجعها العلمية الذين يفزع إليهم غير المختصين بها في معرفة أصولها وفروعها ومكنوناتها كرجوعهم للأطباء في أمور الصحة والفقهاء في مسائل الشريعة.

كتاب المغالطات المنطقية لعادل مصطفى يعرض أساليب الإستدلال والإقناع الباطلة التي تستخدم في الحوارات والخطابات والإعلام، وهو في الحياة العامّة أهم وأشدُّ نفعًا من أغلب كتب المنطق التقليدية التي تكون في الجملة موجَّهةً لطالب الفلسفة والكلام.

ومضات - ١٢١

يقول بن خلّكان " لقد شاهدتُ بعيني أثير الدين الأبهري وهو يقرأ المجسطيعلى الشيخ كمال الدين بن يونس، واستمرّ سنين عديدة يشتغل عليه، وكان أثير الدين آنذاك صاحب تصانيف يشتغل فيها الناس" - [ المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء، ٣ :١٧٠]

أقول:
من العادي في الأزمنة السابقة أن تجد شخصًا صاحب علمٍ ووفرة في التصانيف يتتلمذ على يد آخر في علم يحتاجه يجده عنده، ولكن في أزمنتنا المعاصرة، حيث صار للمعرفة "عنوانات" و "أسماء" فصار من ينال لقبًا ودرجةً علمية أكاديمية أو غيرها، يسحب نفسه إلى بيئة من الأشخاص الحائزين على نفس اللقب، فتجده يبني سورًا بينه وبين من "دونه" ممن ليس لهم هذا اللقب، فيتحرّز عن التتلمذ على يده، أما في الأزمنة السابقة التي لا وجود فيها لألقاب وأسماء الدرجات العلمية كان الفضاء واحدًا يجتمع فيه الجميع.
بعبارة أخرى: العناوين والالقاب حوّلت الفضاء المعرفي الواحد إلى فضاءات معرفية معزولة.

الشيخ حسين إبراهيم شمس الدين