"جمال الأشياء يكمن في كونها سرًّا"
-الأخوة كارامازوف

اويلي

الحياة تمشي ،

ان ما كان يرشقنی به رفاقى السجناء من نظرات مستطلعة متوحشة ، وما كانوا يعاملون به هذا « النبيل ، السابق الذى يدخل الآن عضواً في جماعتهم من معاملة قاسية تبلغ أحياناً حد البغض والكره ، ان هذا كله كان يعذبني تعذيباً شديداً ، حتى صرت أتمنى أنا نفسى أن أمضى الى العمل ، بغية أن أعرف مدى شقائى دفعة واحدة ، وأن أعيش كما يعيش الآخرون ، وأن أسقط فى الهاوية معهم بأقصى سرعة . كانت تفوتني أمور كثيرة، وتستعصى على فهمى وقائع شتى كنت لا أستطيع مثلاً أن أميز بين العداوة الشاملة التي يظهرونها لى ، وبين المودة والعاطفة التي يبدونها نحوى . على أن ما أحاطنى به بعض السجناء من تودد وبشاشة قد شــد أزرى وبث الشجاعة في نفسى وأنعش قلبى . كان أكثر هؤلاء تقرباً منى وتودداً الى وعطفاً على هو أكيم اكيمتش . وسرعان ما لاحظت أيضا بضعة وجوه أخرى طيبة كريمة لطيفة محببة في ذلك الجمهور الكتيب المبغض من السجناء الآخرين . أسرعت أقول لنفسي متأسياً : « ان في كل مكان أشراراً ، ولكن الأشرار أنفسهم يشتملون على خير ! ومن يدرى ، فقد لا يكون هؤلاء الناس شراً من الآخرين الذين هم طلقاء أحرار . . قلت ذلك لنفسي وأنا أهز رأسى متحيراً ! ... ولم أكن أدرى الى أية درجة كنت على حق ! ...

- ذكريات من منزل الاموات

في الأمل الصفقة خاسرة
من حيث أراني
أُفلتُ أقرب ما في القلب من الأسباب
لأمسك أبعدها

في الأمل
المرئي يهلوس باللامرئي
الواضح يحلف بالغامض
والمتوهم ينتقص المحسوس
ببعض الأمل
بوسعك أن تعشق سيدة الجن
وتجلس في مقهى الأبدية
ترقب موعدها

في الأمل
يسوي النسيان الفرضية بالواقعة
فيجعل كل شقي محكوم بالمنأى في الجهتين يسير تجاه جسور ما شيدها

الأمل ثلاث مراحل:

أن تبدأ بنيان الحائط بالشباك وأن تتوسط بين الموجود وبين المعدوم وأن تُنهي عمرك

تحت خلاصة زيف مزدوج في معنى: ألا تمتلك الأشياء وتخشى أن تفقدها .
-لم يعد ازرقا

هناك أشياء لا يستطيع المرء ان يقضى فيها ما لم يكابدها بنفسه . وحسبى أن أقول ان الحرمان من متع الفكر اشق على النفس من أقسى الآلام الجسمية . ان من يرسل الى السجن من عامة الناس يجـد نفسه في مجتمعه ، بل لعله يجد نفسه في مجتمع ارقى ، فلئن افتقد عندئذ الركن الذي ولد فيه ، والأسرة التي نشأ وترعرع بين أحضانها ، فان بيئته تظل هي نفسها . أما الرجل المثقف الذي حكم عليه القانون بالعقوبة نفسها التي يحكم بها على رجل من عامة الناس فانه يتألم ألما لا يقاس به الألم الذي يعانيه ذلك الرجل . ان عليه أن يخنق جميع حاجاته وأن يقضى على جميع عاداته وأن يهبط الى مستوى أدنى لا يرضيه ، وأن يتعود استنشاق هواء آخر . انه أشبه بسمكة ألقيت على الرمل . فالعقوبة التي يتلقاها ، وهي تساوى بحكم القانون عقوبات جميع المجرمين ، تحدث له في كثير من الأحيان من الألم الممض والعذاب الكاوى عشرة أضعاف ما يعانيه من ذلك ابن الشعب . تلك حقيقة لا جدال فيها ، ولو اقتصر الكلام على العادات المادية التي ينبغي له أن يضحى بها .

- ذكريات من منزل الاموات

علينا أن نودع بعضنا بأستمرار،
أن نتبادل الوداع كلَّ حينٍ.
بكثيرٍ من الصمتِ والحنو
والنظرات الطويلة إلى الأبواب.
أن نألف الوداعات
كما نألف أسرّة نومنا.

كلُّ مَن يخرجُ ويغلق الباب،
قد لا يعود، كلُّ مَن يذهب إلى مخبزه
في الصباح الباكر، مبتهجًا بيومٍ جديد
قد لا يعود إلى قهوتهِ الّتي ستفيضُ
على النارِ، أو إلى المطبخ في عمق الليل،
فقط ليشرب، قد لا يعود أبدًا إلى أحلامهِ.

ووحده الصنبور سيظل يقطّر
كلُّ مَن ينامُ بعد أن يقول لنا:
تصبحونَ على خير.
قد لا يستيقظ أبدًا، كثيرون خرجوا
مبتسمين، ولم يعودوا في المساء
ولا في أيِّ مساء، كثيرون ذهبوا
وكان الشتاء يبللَ أضواء النيون،
ومعاطفنا قصيرةٌ على الرعشاتِ

ووقفنا نتوسل إليهِم بنظراتنا المبلولة.
كثيرون انعكسوا في صفاءِ دموعنا
وهم يبتعدون دون التفات،
عادت الفصول في أوانِها،
عادت الطيور وأزهر الأصيص
عند النافذة، ولم يعودوا كثيرون،
بكثيرٍ من الصمتِ والحنو
والنظرات الطويلة إلى الأبواب
وإلى الغمام فوق محطات القطارات
وفوق المقابر في أواخر الخريف
وبالموسيقى التي بلا أغانٍ وبلا راقصين،

علينا أن نألف الوداعات
كما نألفُ أسرّة نومنا
أن نسبقها قبل أن تسبقنا.
عوض أن نقول مرحبًا؛
علينا أن نقول دائمًا، وداعًا..
- محمد بنميلود