كعب بن مالك، الصحابي الجليل، كان يسير بين الناس بجسد حاضر لكن روحه غارقة في بحار الندم. في يوم غزوة تبوك، عندما أطلق النبي صلى الله عليه وسلم النداء للخروج، تخلَّف كعب دون عذر حقيقي، مترددًا بين خروجه وعدم خروجه، حتى فاتته اللحظة وفات معه الركب. وعندما عاد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة من الغزوة، أدرك كعب جسامة ما فعل. شعر وكأن العالم من حوله قد ضاق عليه، وبدأ يشعر بثقل القرار وكأنه جبل.

أُمر الصحابة بمقاطعة كعب، فوجد نفسه في عزلة لا يُطاقها قلبه، فمرت الأيام ببطء قاتل، كأنها سنوات من الجحيم. كلما مشى في الطرقات، كان يرى الناس يتجنبونه، وكأنه أصبح ظلًا يتوارى عن الأنظار. كل باب يطرقه لا يُفتح، وكل نظرة يلتمس فيها العطف تأتيه باردة كالجليد. لكن كعب، رغم هذا العذاب، لم يفقد الأمل في رحمة الله، وظل يناجيه ليلًا ونهارًا، يبكي ذنبه وينتظر الفرج.

مرت الأيام بطيئة ومثقلة حتى كانت الليلة الأربعين، عندما وصلته البشرى من السماء. فجأة، اخترق الصمت صوت ينادي: "يا كعب، أبشر بخير يوم طلعت عليه الشمس!" وقف كعب في مكانه، متجمدًا من أثر الصدمة، فاضت عيناه بالدموع، لكنه لم يتحرك. ما كان يعيشه لحظة، بل كان يغرق في بحر من السعادة لم يعهده من قبل. عندما دخل المسجد ورأى وجه النبي صلى الله عليه وسلم مشرقًا، أدرك أن الله قد قبل توبته.

في تلك اللحظة، شعر كعب أن الأرض اتسعت بعد أن ضاقت، وأن الأبواب التي كانت موصدة قد فتحت على مصراعيها، وكل نظرة باردة تحولت إلى دفء لا يوصف. لقد غُفرت ذنوبه، وعاد إلى حياة مليئة بالحب والرحمة، بعد أن كان يظن أن كل شيء قد انتهى. في تلك اللحظة، فهم كعب أن التوبة ليست مجرد كلمات تُقال، بل هي رحلة من الألم والانتظار واليقين، وأن رحمة الله أوسع من كل خطيئة.

في مشهد من مشاهد العظمة الربانية، يأتي النداء الإلهي في قوله تعالى: ﴿هُوَ اجْتَباكُمْ﴾، ليحمل في طياته سرًا من أسرار التفضيل الإلهي.

هنا، يقف المؤمنون أمام حقيقة مهيبة: إنهم ليسوا كأي قوم آخرين، بل هم مختارون بعناية من خالق السماوات والأرض، ليكونوا حُماةً لدينه وحملةً لرسالته.

هذا الاختيار ليس محض صدفة، بل هو اصطفاء ينبع من حكمة الله العظيمة.
لقد انتقاهم ليقفوا في وجه الباطل، ليكونوا قوة ضاربة في نصرة الحق، وليكونوا أولئك الذين يُدافعون عن دين الله بكل ما أوتوا من عزم وإيمان.
إن هذا الاجتباء يأتي ليؤكد أن هذه المهمة الجليلة التي وُضعت على عاتقهم تتطلب منهم أن يكونوا على مستوى التحدي، أن يثبتوا أنهم يستحقون هذا الاختيار الفريد.

وكأن الله سبحانه وتعالى في هذا النداء يُشعل في قلوب المؤمنين شعلة من الحماس، شعلة تدفعهم إلى المجاهدة بكل ما يملكون، فهم الآن يدركون أن الله قد خصّهم بهذه المسؤولية، وأنهم قد أُعطوا شرف الدفاع عن دينه.
إن هذا الوعي بمكانتهم الخاصة يجعلهم يتحملون تلك المسؤولية الكبرى بروحٍ جديدة، بروحٍ تستشعر عظمة التكليف وتسعى لتحقيقه بإخلاصٍ لا مثيل له.

وهكذا، يتجلى أمام المؤمنين معنى الاجتباء الحقيقي: إنه ليس مجرد اختيار، بل هو دعوة للارتقاء، دعوة لأن يكونوا كما أرادهم الله، جنودًا في جيش الحق، لا يعرفون التراجع ولا يستسلمون للصعاب، لأنهم ببساطة، مختارون.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿هُوَ اجْتَباكُمْ﴾

أَيِ اخْتَارَكُمْ لِلذَّبِّ عَنْ دِينِهِ وَالْتِزَامِ أَمْرِهِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالْمُجَاهَدَةِ، أَيْ وَجَبَ عَلَيْكُمْ أَنْ تُجَاهِدُوا لِأَنَّ الله اخْتَارَكُمْ لَهُ.

القرطبي

https://youtu.be/aURM_BJbg1k