إفساد الأدلجة للعقل , أفهم منه شيئين : الأوَّل : فرط سطوة الإطار الفكري المعين على عقل الإنسان بحيث يفسد النظر , تارة برؤية الأشياء على غير ما هي عليه ل , وتارة بعدم رؤية بعض الأمور المؤثرة أصلاً , ولتقريب الصورة , في كثير من الأحيان يكون الإنسان يفكر في شيء ما بشكل كبير, فيقرأ كلاماً فيه كلمة تشبه الكلمة المعبرة عما يفكر فيه , فيقرأ هذه الكلمة على غير ما هي عليه , فهنا أدى فرط استحواذ الفكرة على العقل على تغيير رؤية الإنسان للأشياء ليراها على غير ما هي عليه , تماما مثلاً من لديه فرط تركيز على قضية الحاكمية يستنبط من الآيات ما يدل عليها بطرق شديدة الغرابة والبعد بينما لا ينتبه أبداً إلى ما في هذه الآيات من دلالة مباشرة على مطالب أخرى , عندما يغلب هذا الحال على ( نظر) الإنسان وطريقة تفكيره = يؤدي هذا إلى إفساد العقل العلمي .
الثاني : التعصب , التعصب لأي فكرة عادةً ما يُعمي الإنسان عن رؤية الإشكالات ونحو ذلك , ولا يستطيع أن يقرأ كلام الناقدين ولا أن يفهمه البتة على وجهه .

فإفساد ( الأدلجة ) للعقل نابع من أمور خارجة عن الأيدلوجيا , وإنما هما أمران عائدان لطبع الإنسان : الأول : فرط الانهماك بقوالب فكرية معينة وعدم القدرة على اكتساب نوع من المرونة في التنقل بين القوالب الفكرية المختلفة وتفحص ما بينهما من وجوه الاشتراك والاختلاف , ليكون الموجه لفكره ونظره صحياً مرتبطاً بالمشتركات البشرية , وهذا شيء عائد إلى قدرات الإنسان وعقله ونضجه , والناقص هنا إنما نقصه فرع في الغالب عن طبع عام من عدم المرونة العقلية أو السلوكية أحياناً , والثاني : هو التعصب وهو شيء متعلق بهوى الإنسان .

فالأيدلوجيا من حيث هي مجرد نموذج فكري , ليست شيئاً مذموما , وإنما المذموم هو تفاعل مخصوص مع الأيدلوجيا سماه الناس ( الأدلجة ) .

التمذهب في التعلم ضرورة , وفي التعبد خيار , وفي الإفتاء مرجع ومرد عند عدم ترجيح المفتي واستواء الأقوال بالنظر إلى مصلحة المفتى لهم وما تقتضيه اعتبارات الإمكان والمصلحة .
والخلط بين هذه المراتب الثلاث يؤدي لمشاكل وإشكالات

في كثير من الأحيان أتذكّر غلبة المنافقين والظالمين بالسلاح في عامة بلاد الإسلام فيشتد الغم علي ، فإذا تذكرت غزة والقسام سُرّي عني .

أدام الله عز القسام شفاء لأوليائه غصة في حلوق أعدائه .

هناك نوع من السلفية غارقون في المناظرات والجدل مع الشيعة ، بطريقة تجعلهم يضخمون من مشروع إيران ، ويرون الصراع السعودي الإيراني هو صراع بين السنة والشيعة ، على اعتبار أن السعودية هي الحامل الإقليمي لمشروع سني ، وبالتالي فهؤلاء يرتاحون للتقارب مع السعودية ويطربون له ، ولا يرون بأسا في مدح حكامها ، ويصيبهم السعار عند أي تحالف أو تقارب مع إيران .

في الحقيقة هذا جزاء من كان جدله سببا في ترك الواجب ، أن لا يبصر أنه وإن كان حكام إيران شيعة فإن حكام السعودية علمانيون قوميون ،وأن هذه البدع أغلظ من بدعة التشيع ، وأنهم زادوا على ذلك أنهم يعملون لمصالحهم الشخصية لا مصلحة أمتهم القومية حتى لو جعلهم هذا يخالفون العلمانية نفسها لمحاربة التدين ونشر الرذيلة والإلحاد .

وهذا لا يعني التحالف معهم أو لا ، وإنما فقط إلغاء للتصوير السخيف الذي يجعل الشخص يتهلهل عندما يرى توسع لنفوذ السعودية ويظن أن هذا انتصار للسنة على المشروع الشيعي الرافضي ..الخ

أبصار أصابها العمى

بهذا المفهوم : أهل السنة هم أكثر المسلمين , ولا يختصون بطائفة معينة , بل قد يدخل فيهم سلفي ويخرج آخر , ويدخل فيهم أشعري ويخرج آخر , وهذا المفهوم : نسبي , يختلف باختلاف الأحوال والبلدان . وضبط ( أهل السنة ) يختلف عن ضبط ( السنة والحق ) فالمقالة الحق تعرف بالدليل…

عندما تحاول أن تتعلم قليلاً فيما يتعلق بالسياسة سيكون أول ما يتغير في وعيك هو أن فهم أي مشهد سياسي يحتاج إلى الكثير من جمع المعلومات ، وهذا الجمع هو عملية فيها قدر كبير من التعقيد والصعوبة وأحياناً الندرة ، ثمّ ينظر بعد ذلك لهذا المجموع عن جزئيات المشهد السياسي…

عندما تحاول أن تتعلم قليلاً فيما يتعلق بالسياسة سيكون أول ما يتغير في وعيك هو أن فهم أي مشهد سياسي يحتاج إلى الكثير من جمع المعلومات ، وهذا الجمع هو عملية فيها قدر كبير من التعقيد والصعوبة وأحياناً الندرة ، ثمّ ينظر بعد ذلك لهذا المجموع عن جزئيات المشهد السياسي في ضوء المحددات العامة .
هذه الحالة مما يجعل العاقل المتخصص يميل للتمهل والصبر والسكوت عن الكثير من المساحات أو عرض المعطيات دون تعليق عليها .

وفي سياق آخر ، قد تجد كثيراً من الشرعيين يعتمدون في تحليل وفهم الواقع السياسي على أمور عامة ، من جنس : القوى الكبرى لا تريد نهوض الأمة الإسلامية - الغرب يريد نهب ثرواتنا- الحكام عملاء للغرب ويخدمون مصالحه - ثمّ يضاف لهذه الأمور العامة بعض التصورات النظرية المفروضة ، ثمّ تلعب الانطباعات الدور الأكبر في صياغة سردية مركبة من هذه العموميات والفروض النظرية .

الاستياء الذي تنتجه هذه الحالة عند المشتغل بهذه العلوم مثل الاستياء الذي يشعر به الشرعي عندما يقوم الحداثي بالمناداة بالاكتفاء في فهم مراد الشارع وأحكامه الجزئية بمقاصد الشريعة العامة ويبدي اعتراضه على وجود أصول الفقه ويظهر حالة من عدم الاعتراف بكل ما يخص جمع المعلومات الجزئية من نصوص جزئية وطرق تحليلها والتوفيق بينها ، ويستبدل ذلك بانطباعات شخصية وفروض نظرية .

في أي حالة علمية صحية لا بدّ من غزارة الجمع للمعلومات الجزئية وحسن تحليلها في ضوء المقاصد والقواعد والمحددات العامة ، وحيث استغنيَ عن المعلومات الجزئية وظهرت الانطباعات والفروض النظرية أنتج ذلك حالة من العبثية العلمية ، وعملية الجمع هذه، شيء شاق وصعب ، ولو حققه الإنسان ، لن يطيق الكلام في أكثر الأشياء .

حول  وصف الرجل بأنه ( مبتدع)  ( صاحب بدعة)( من أهل البدع) وهل يوصف الرجل بذلك لمجرد تلبسه ببدعة أم لا بد من قدر زائد على ذلك؟

ومن يقول:  يوصف بها لمجرد قوله للبدعة، يقول:  لأن مأخذ الاشتقاق وهو الابتداع موجود، فصح تسميته مبتدعاً، وهذا الكلام غير سديد، فإنه يقال:  لا نسلم أن مأخذ الاشتقاق هو مجرد قول البدعة، بل مأخذ الاشتقاق مركب من قول البدعة والهوى الباعث على ذلك، ووجه ذلك:  أن هذه الألفاظ هي ألفاظ ذم في كلام الشارع، والذي يقول قولا باطلاً وهو معذور في ذلك لاجتهاده = ليس مذموما في الشرع، فلو كان مأخذ الاشتقاق هو أمر يشترك فيه المذموم وغير المذموم = بطل كون هذا اللفظ من ألفاظ الذم، وهذا خلاف ما في الشريعة، فإنها لم تفرق بين لفظ الكافر والمبتدع والفاسق ونحوها، بل جعلت جميع هذه الألفاظ في باب الذم.

فلذلك نقول: مأخذ الاشتقاق مركب من قول البدعة والهوى الباعث عليها، ليتناسق هذا مع جعل الشرع هذا اللفظ من ألفاظ الذم.
وبناءً عليه: فلا يقال للرجل:  مبتدع لمجرد قوله قولا باطلاً، ولا بد من التنبيه هنا:  على أن هذا اللفظ قد أصبح مجملاً، فإذا قال قائل هل فلان مبتدع، فلا ينبغي إطلاق الجواب نفيا ولا إثباتا بل يفصل فيقول:  اريد بنفي كونه مبتدعا أن كل أقواله الدينية سائغة لا نعلم مخالفتها للرسول = فهذا باطل، وإن أردت أنه ليس من أهل الأهواء = فهذا قد يكون حقا بحسب ما يعرف من حال الشخص.

وأما لفظ ( صاحب بدعة)  فهذا اللفظ مدلوله في العرف: من كان له اختصاص بالبدعة وعناية ونصرة حتى عرف بها، فإذا ذكر في الناس عرف بهذه البدعة وذكرت معه  ، وهذا لا يقال في كل من قال قولا باطلا،  ومن هنا تفهم أن توفير العالم الواقع ببدعة لا يدخل في قول من قال من السلف ( من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام)  فإن صاحب البدعة إذا عرف في الناس ببدعته وصار علما عليها، فوقرته وأكرمته ففعلك هذا يستبطن تسويغ أمر هذه البدعة، بخلاف من عرف من العلماء بنصرة السنة وشرحها وخدمتها كابن حجر مثلا، فإن توقيره ليس لأجل ما زل به مما لا يعرفه جمهور من يحب ابن حجر، وإنما لأجل ما اختص به وعرف به من الحق.
وهذا اللفظ له نظائر كلفظ ( صاحب سنة)  و (صاحب حجة)  لا يقال هذا صاحب سنة هكذا بإطلاق لمجرد موافقة السنة في موضع، بل حتى يعرف بالسنة ويشتهر بها وبالعناية بها.

وكذلك لفظ ( أهل البدع) فهذا مثلا كلفظ ( أهل القرآن)  الذي جاء في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لا يدخل فيه كل من له حظ من القرآن فعامة المسلمين كذلك، وإنما من اختص بكتاب الله وعرف به وحفظه واعتنى به، فكذلك ليس كل من عنده بدعة هو من أهل البدع، حتى يكون معروفا بالبدع مشهوراً بها له عناية واختصاص بها.

يَحكي الشيخ عبدالله العجيري أنَّه كان إذا طالع بعض تعليقاته التي كتبها على كتبه قديما = شعر بالعار منها , وخط عليها بالقلم لئلا يفهمها أحد ,وبعض تلك التعليقات من شدة حرصه ألا يقرأها أحد كان يشقها من الكتاب ثم - على وفق تعبيره- يلقيها إلى مزبلة التاريخ - .

هذه القناة تمثل خواطر يكتبها شخص يتعلم , لغرض التعلم ,وبالتالي فهي ربما ستتضمن الكثير من هذا النوع , ولولا الفائدة المرجوة من اعتياد الكتابة لما كانت , ولذلك أرجو التعامل معها في هذا السياق .

(من قال هلك الناس فهو أهلكهم )
بضم الكاف وفتحها .

الإنسان يبحثُ دائماً عمَّا يسرّه ويلتذُّ به ، وأحياناً تكون شهوة التميّز والعلو على النّاس غالبة عليه ، حتى يصير إلى حالٍ يفرح فيه برؤية نقصِ النَّاس ، لأنه يشعر بسبب ذلك بتميزه عليهم ، فيفرح بهذا الشعور ويسرّه ، وكلما ازداد تمكن هذه الشهوة منه مع ضعف الإيمان والعقل = استفحل فيه هذا الدّاء ، وزادت نهمته في تتبع نقص الناس ليزداد تلذذاً بهذا الشعور ( شعور التميز) .

وربما يكون الإنسان منتسباً إلى العلم والدين ، ويرى فضله على النّاس بذلك فيسرّه أن يرى نقص الدين في الناس ، بل يسره أن يرى ذلك في من يشاركه الانتساب للعلم والدين ، لأنه أشد منافسةً لهم من غيرهم ، فإذا كان حاله كذلك : رأيته أسرع الناس للتنقيب عن النقص في أيّ عمل صالح يخرج ، أو شخصيةً مصلحة تبرز ، كأنه قد وضع مجهراً على أهل الصلاح - وصفحاتهم وقنواتهم وحركاتهم وسكناتهم- يبحث عن النقص فيهم حتى يشعر بتميزه عليهم ، ويدفع عن نفسه الألم المتولد عن شعوره بتميزهم عليه .

ومن علامات كون حديث الإنسان عن نقص الدين في الناس عموما والمتدينين خصوصاً من حبه للتميز وسروره برؤية نقص الناس = أن يكون نقده تسخطاً محضاً لا بناء فيه ولا نصيحة عملية ، وأن لا يتحرى فيه اللين والشفقة ، وأن يكثر منه ويكرره بلا طائل ولا مصلحة من التكرار ، وأن يكون اشتغاله بنقد النقص في شخصٍ ما أعظم كلما كان أصلح وأديَن وأقل كلما كان أفسق وأفجر .