الجرح كلمة غير معقولة. فيها رائحة عبادة للماضي، ورغبة في البكاء عليه. امسح هذه الكلمة من قلبك. امسحها من لوحك. ثم امش إلى أرض بلا جراح، أرض الغيب والشك واللايقين.
الوردة أيضا مخلوق من الأرض اللعينة ذاتها، فاتركها وراءك. امسحها من على شفتك كأنك تسمح زجاجا مغبرا.
الحب كذلك ذكرى وجرح ويجب أن يلغى.
أمش بالفضول وحده. كنْ مع الجمع الصلب الذي ليس عنده جراح في القلوب. سيكون هذا شيئا قريبا من اليأس بالطبع، لكن لا تخف منه. فاليأس بلسم للجراح كلها.
وخذ مني: لقد عرفت أناسا قطعوا باليأس وحده آلاف الأميال، ولم يكن في حقائبهم حزن أو جرح أو حب. وأعرف فهودا قطعت سهوب السافانا بأعينها الزجاجية، التي لا تبكي على أي شيء، ولا تتذكر إلا المستقبل، إلا الفريسة القادمة.
امش بقدمك الكبيرة في الطين من أجل الفريسة القادمة.
كل خيط يخرج من نول الجراح باطل. وكل قميص يحاك منه باطل.
ليكن قلبك فارغا إلا من الفريسة القادمة. وليكن الفضول هو الصقر الوحيد الذي يحلق فوق رأسك كأنه عمامتك.

زكريا محمد

الحاصل أنني لا أعرف من أنا. مثل غراب خرج من نافذة السفينة، وطار فوق ماء الطوفان، ولم يعد أبدا.
الحاصل أنني لا أعرف حتى اسمي. جناحي في كتفي، واسمي في نجمة بعيدة غير مرئية. ربما حلّ يوم أجمع فيه جناحي واسمي معا. لكن الأمور معقدة جدا. الميلاد ليس سهلا، والموت ليس سهلا، وما بينهما ليس سهلا. غير أن هناك من بشّرني بأن ثمة إلها يشعل كل يوم قنديلا كي يرفو على ضوئه جبّته. واسم هذا القنديل هو الصباح، أو هو الموت على الحاجز.
تخيل لو أنه لم يكن هناك هذا القنديل! كانت جذورنا ستغوص في عتمة الطين ورؤوسنا في عتمة السماء.
لا أعرف من أنا. أتذكر فقط أن يدا أطلقتني من نافذه السفينة، ولم أعد.
لكن يوما ما سأفكّ السلك الذي صنع منه جناحي. سأفضّ ختم الكلام عن لساني، وأصير حجرا. لا يعرف الحجر أمه، ولا من أي نافذة خرج. وسأقعد أنا الحجر الصغير على حجر أكبر مني. وهناك سأفكر باسمي الذي في النجمة الخفية. لا، الأحسن ألا أفكر بشيء. على الواحد أن يسير تبعا للأحسن، لا تبعا لجناحه واسمه ونجمته. هذا هو القانون الفصيح للكون.
يوما ما سأفكك الخيوط التي صُنعت منها أشيائي: اسمي وروحي وجناحي، ثم أنام نومة عميقة. وهذا ما يسمونه عيد ميلاد الحجر.

زكريا محمد

زرقتُه مثلُه
مثل عينين مرسومتين على الماء
مثل السماء
تمثّلته،
مثله.

من كتاب المنسيات | قاسم حداد

أَسْرَجُوا الخَيْلَ,
لا يعرفون لماذا,
ولكنَّهُمْ أسْرَجُوا الخيلَ في السهلِ

كان المكانُ مُعَدّاًً لِمَوْلِدِهِ: تلَّةً
من رياحين أَجدادِه تَتَلَفَّتُ شرقاً وغرباً.وزيتونةً
قُرْبَ زيتونةٍ في المَصَاحف تُعْلي سُطُوحَ اللُغَةْ...
ودخاناً من اللازَوَرْدِ يُؤَثِّثُ هذا النهارَ لمسْأَلةٍ
لا تخصُّ سوى الله. آذارُ طفلٌ
الشهور المُدَلَّلُ. آذارُ يندفُ قطناً على شَجَر
اللّوْز. آذارُ يُولِمُ خُبّيزةً لِفناء الكنيسةِ.
آذارُ أرضٌ لِلَيْلِ السُنُونو, ولامرأةٍ
تَسْتَعدُّ لصرخَتها في البراري... وتمتدُّ في
شَجَر السنديانْ.

يُولَدُ الآنَ طفلٌ,
وصرختُهُ,
في شقوق المكانْ

إفتَرقْنا على دَرَج البيت. كانوا يقولونَ:
في صرختي حَذَرٌ لا يُلائِمُ طَيْشَ النباتاتِ,
في صرختي مَطَرٌ, هل أَسَأتُ إلي إخوتي
عندما قلتُ إني رأيتُ ملائكةً يلعبون مع الذئب
في باحة الدار؟ لا أَتذكَّرُ
أَسماءَهُمْ. ولا أَتذكَّرُ أيضاً طريقَتَهُمْ في
الكلام... وفي خفَّة الطيرانْ

أَصدقائي يرفَون ليلاً, ولا يتركونْ
خَلْفَهُمْ أَثَراً. هل أقولُ لأمِّي الحقيقةَ:
لِيْ إخوةٌ آخرونْ
إخوةٌ يَضَعُونَ على شرفتي قمراً
إخوةٌ ينسجون بإبرتهم معطفَ الأُقحوانْ

أَسْرَجُوا الخيلَ,
لا يعرفون لماذا,
ولكنهم أَسرجوا الخيل في آخر الليلِ

سَبْعُ سنابِلَ تكفي لمائدةِ الصَيْفِ.
سَبْعُ سَنَابِلَ بين يديَّ. وفي كل سُنْبُلَةٍ
يُنْبِتُ الحقلُ حقلاً من القمح. كانَ
أَبي يَسْحَبُ الماءَ من بئرِهِ ويقولُ
لَهُ: لا تجفَّ. ويأخذني من يَدِيْ
لأَرى كيف أكبُرُ كالفَرْفَحِينَةِ...
أَمشي على حافَّة البئر: لِيْ قَمَرانْ
واحدٌ في الأعالي
آخرُ في الماء يسبَحُ ... لِيْ قمرانْ
واثقَيَن, كأسلافهِمْ, من صَوَابِ

الشرائع... سَكُّوا حديدَ السيوفِ
محاريثَ. لن يُصْلِحَ السيفُ ما
أَفْسَدَ الصَيْفُ – قالوا. وصَلُّوا
طويلاً. وغنّوا مدائحهُمْ للطبيعةِ...
لكنهم أَسرجوا الخيل,
كي يَرْقُصُوا رَقْصَةَ الخيلِ,
في فضَّة الليل...

تَجْرحُني غيمةٌ في يدي: لا
أُريدُ من الأرض أكثَرَ مِنْ
هذه الأرضِ: رائحةِ الهالِ والقَشِّ
بين أَبي والحصانْ.
في يدي غَيْمَةٌ جَرَحَتْني. ولكنني
لا أُريدُ من الشمس أكثر
من حبة البرتقال وأكثر من
ذهب سال من كلمات الأذان

أسرجوا الخيل,
لا يعرفون لماذا,
ولكنهم أسرجوا الخيل
في آخر الليل, وانتظروا
شبحاً طالعاً من شقوق المكان...

في يدي غيمة | محمود درويش

قال: مِن عادة الغرباء في كل بلاد ومقصد:
الكتابةُ على الحيطان والبوح بأسرارهم في الحانات والبساتين.
طلب لي دواةً كي أقف ما بين المذبح
وأكتبَ على بحر المتدارك ما جاش بالقلب من كدَر.
كلّما ألقى أغنية في البحر ازدادت الحجارة على اليابسة.
ما يأتي على هذه الدنيا شيءٌ إلاّ رواه أحدٌ من الناس.
"ويح قلبي كيف بهذا اللسان أبعدني قومي وأنا ما أَبعدتُ منهم أحداً!".
"كنتُ أريد مائة فجعلتها تسعةً وتسعين صوتاً".
"لا عذرَ لهم إذ نسوا صوتي وما كان صوتي خافتاً!".

عاشور الطويبي

كان جلّ ما يسعون إلى رؤيته في ترحالهم،
هو كيف تتقشّر الروح من العطش الأبدي.

كان طريقه إلى الشِّعر سميعٌ وقلبٌ يهمسُ للكون
"ليت كلّ الطرق تعرف قدميَّ!"