لهذا الكتاب ألقه الخاص، ليس في أصالة فكره فحسب وهو يدخلني في أجواء من تاريخ العرب عبر صفحات بلون الرمال التراثية؛ بل لكونه عاريّة أثرية عمرها أكثر من نصف قرن من مكتبة جدّي الطبيب الأديب عبداللطيف رحمه الله.
فأقضي وقتًا مع الكتاب تنسكب حروفه في عقلي لذيذة دافئة، يزيدها شعوري أنّ أجورًا ينالها جدّي في قبره بإذن الله كلّما احتضنت من أولاد مكتبته ولدًا.

هذا الكتاب أزعم أن لا غنى لمحبي الشعر عن التهامه، جفنةٌ تحتاج إلى رهط يقتسمونها تدارُسًا واستلذاذًا؛
وِرْدُ قراءتي اليوميّ منه خفّضته مرارًا لأنّ معدة استيعابي الرهيفة لا تحتمل لبنًا صُراحًا من ناقة عربيّة حلوب، وسمنًا طازجًا من البادية لا يؤكل إلا لِمامًا وبالكاد.

أقف مع نقيّ الأدب، وأبيات الشعراء عبر العصور، ويطيب لي البيت فأملأ به الفضاء، وأقول في نفسي:
لمثل هؤلاء البلغاء جاء تحدّي القرآن لو بعشر آيات..
وحريٌّ بمثلهم العجز، فكيف بغيرهم!

تلوح طرائق الأدباء وتعبيرهم، ومنذ ذلك العصر حتى عصرنا هذا منهم مباشِرٌ يتحيّن الفرصة ليرمي ببيت، فتجد بيته ساذجًا يكشف عن مُراده دون التفاف، فهو يكرمنا بجعل غرضه على السطح تمامًا بينما يمتعنا الآخر بجعل الفكر يغوص ولو كان المراد ضحلًا وهذا ألذّ وأمتع،
وأجد أنه أحبّ إليّ أن ينكشف مجموع المعنى بعد نهاية البيت الواحد مِن أن أعرف المُراد مباشرة من أول شطر.
وهذا كلما كان الشاعر أقدر وأذكى في استدعاء معناه وذكائه، وعمق تحصيله، واتساع قريحته، ونصاعة ملكته الفطرية، وأرزاقُ الله الموزّعة في العقول.

وعادة إذا كانت للأدب غاية واضحة عرفها القارئ منذ البداية فسيتوقف عن القراءة أو الاشتياق لترقّب المعنى، فجمال الغاية أن تكشف نفسها تدريجيا ؛ فلا تغيب في النص ولا تحضر بقوة تجعل الأدب سطحيًّا بحتًا.
وفي النفس متعة باكتشاف المخبوء.

من جمال بعض المعاني التي تقف خلف أستار بعض الأغراض من الفخر أو الغزل خاصة أنها تشبه الفيضان الذي وصفه تودوروف في كتابه (نظريات في الرمز ) عند قوله:"ما لا يمكن قوله يستحثّ وفرةً في الكلام ، فيضانًا للمدلول على الدال ".
تبهرك معانٍ حاول الشاعر المِفنُّ إيصالها، وهو مع إيجازه ظلّت في الزوايا المظلمة لأنّ التعبير بها ليس يطاق وجمالها أن ترى خيالها من خلف الستار.

في بعض التشبيهات التي مرّت بي لا أملك إلا أن أقول: كيف خطر للشاعر هذا التعبير لهذا المعنى!
مثل قول أحدهم:
"فلو جُنّ إنسانٌ مِن الحُسْنِ جُنَّتِ"
وربما للوقوف على أمثال هذا عودة..

من النصوص الثمينة المنقولة في الكتاب:
- قول ابن رشيق: "وكانت العرب لا تتكسب بالشعر، وإنما يصنع أحدهم ما يصنعه فكاهة أو مكافأة عن يدٍ لا يستطيع أداء حقها إلا بالشكر إعظامًا لها"
ثم ذكر قول امرؤ القيس لسعد بن ضباب:
"سأجزيك الذي دافعت عني
وما يجزيك عني غير شكري"

مَن يقرأ في سمات العرب وشهامتهم وكرمهم، يعلم يقينًا أنه لم يكن الأصل في العربيّ أن يتكسب بشعره، فليس من أنفة العربي إلا الكرم لا سؤال الناس بمهارته الشعرية فضلة أموالهم .

-ومنها: "جمع القرآن أساليب العرب في الجاهلية وعصر الدعوة بجميع خصائصها، حتى في الجانب الخيالي منها، مما دعا العرب إلى أن يقولوا عن القرآن إنه شعر وعن الرسول أنه شاعر" ،…وأورد من الأساليب: أسلوب القرآن الخطابي المنطوي على وعيد مثل سورة المسد، و الأسلوب القصصي الممزوج بشيء من الحوار والوصف مثل حديث نوح وابنه.

أختم الإطلالة بجميل الحكمة في شعر الأفْوَه الأودي من شعراء الجاهلية:
والبيت لا يُبتنى إلّا له عمدٌ
ولا عماد إذا لم تُرْسَ أوتادُ

فإنْ تجمّع أوتادٌ وأعمدةٌ
وساكنٌ بلغوا الأمر الذي كادوا

لا يَصلُحُ الناس فوضى لا سَراة لهم
ولا سراة إذا جُهّالهمْ سادوا

تُهدى الأمور بأهل الرأي ما صَلَحَتْ
فإنْ تولّوا فبالأشرار تنقادُ

#خاطرة

https://t.me/Sha6eAlraghad

آتٍ إليك..

مُسْتسلمًِا جئتُ لا حولٌ ولا مددُ
أنا الضعيفُ وأنتَ الواحدُ الأحدُ

أسيرُ نفْسيَ لا تَنْفَكُّ مِنْ كَبَدٍ
خُلِقْتُ فِيهِ.. وفِيكَ الجُهْدُ والكَبَدُ

فَإنْ حَكَمْتَ فلُطفٌ منكَ يستُرُني
ودونَ عَوْنِكَ رَبِّي لَيسَ لي جَلَدُ

أكادُ أذبلُ مِمَّا جَفَّ في نَفَسِي
وحِينَ أَذْكرُ فَضْلاً مِنْكَ أَسْتَنِدُ

الروحُ تظمأُ والأجسادُ في نهَرٍ
وكلّما شَرِبَتْ سألتْ: متى أرِدُ؟

قصّرتُ لكنّ لي نفسًا تُلاوِمُني
وإن ذكرتُ مقامَ اللهِ أرتعِدُ

ألفَيْتُها زينةَ الدنيا تُهَدْهِدُنَا
وكلَّما فَرِغتْ من فَطْمِنا تَلِدُ

طَرَقْتُ بابكَ صَبْري مَسَّهُ وَهَنٌ
في فِكْرِه رَشَدٌ فِي عَينِهِ رَمَدُ

آتي إليك وَليِّي والخُطا تعِبتْ
حوائجي بَرُدتْ والقلبُ يتّقدُ؟

أطرقتُ منكسرًا والجبْرُ لوّحَ لي
فعَجِلتُ مجتهدًا أدنو فيبتعدُ

ليستْ تُرَاوِدُني باليأسِ أخْيِلَتي
الفألُ أورِدَتي بُستانُها رَغِدُ

ربّاه إنّ يَدِيْ برجائها رُفعتْ
وأيقن القلبُ ما خابتْ إليكَ يدُ

#شعر
#نشيد

https://youtu.be/7mNY0baQUys

في وسط الآلام تأتي تلك المشاهد التي تبذر في أرض الوجدان يقظة..
تعطي نورًا من قبسات
حتى لا يطول السبات..
..
سلِمت جباه الساجدين يقينا
صلّوا على الأنقاض متّحدينا

ما قدّموا الدنيا ولا باعوا لها
أخراهمُ .. صبروا لذاك سنينا

القهر شاخ مع الشهور ففألُهمْ
ما انفكّ في رحم البلاء جنينا

هَبّوا ل"حَيّ على الصلاة" فأفلحوا
وهَبوا لها عُمرًا وعزَّوْا دِينا

ما ضرّ لو قرَض الدمارُ مساجدًا
ورَعى العَمارُ على القلوبِ أمينا

يا خيبة المسعى لمَنْ أنِسَ السّنا
فاختارَ في نَسْيِ الظلام عرينا!

إن حُزتَ في كنفِ الصلاة سكينةً
فالقلبُ يبسُمُ إن بدوتَ حزينا

ربّاه طال العسْر فارحمْ ضعفهم!
بردًا فما برحَ الشعورُ سَخِينا!

..
ذلك الذي فقِه أن البلاء لحكمة وأنّ الله معقبُ الضيق بالفرج
أيقن ألّا ملجأ من الجبار الوليّ إلا إليه؛ يختار للبلاءات الأجدر بالصبر على مثلها، ثم يُعظِم لهم النتائج، ولابن القيّم كلامٌ ملهَم في هذا المعنى إذ يقول:
"وَاللَّهُ- سُبْحَانَهُ- إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا سَقَاهُ دَوَاءً مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ يَسْتَفْرِغُ بِهِ مِنَ الْأَدْوَاءِ الْمُهْلِكَةِ، حَتَّى إِذَا هَذَّبَهُ وَنَقَّاهُ وَصَفَّاهُ، أَهَّلَهُ لِأَشْرَفِ مَرَاتِبِ الدُّنْيَا، وَهِيَ عُبُودِيَّتُهُ، وَأَرْفَعِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ رُؤْيَتُهُ وَقُرْبُهُ".

#شعر
#غزة

https://t.me/Sha6eAlraghad