تبسّم العام الدراسي
ودخل أبناؤنا في بوّابات الحياة والعلاقات والمعرفة،
عاد نسيج الشوارع محكمًا لا تنقصه غُرزة، يحكي نعم الله ويبثّ الغدوّ والرواح لطلب العلم.
طلعت الشمس تسكب شروقها في كؤوس أهل البكور ليلتذّوا بالعزم والبركة والنور.

العام الدراسيّ مثاليٌّ لإدارة الذات،
والناجح الحقيقي يعرف كيف يدير متعته ولا يترك المتعة تديره؛
المتعة فسحة والإنجاز حصص مكثفة في الحياة لا ترتبط بعمر، وعلى هذا فلنسيّر مراكبنا وفلذات أكبادنا معنا.

سننجح مع أبنائنا كلّما أورثناهم استزادة من الكتب الغنية التي تبني الروح والعقل، ومكّناهم من الصبر على التلقّي، وأظمأناهم من تلك المشروبات التواصلية الغازية التي تسرق عمرًا وتنفخ بالهراء، وتُسكِر بقدر مافيها من السكّر.

المرء يُعرَف بما ملأ به عقله، ثم يغتني هذا العقل ليختار لكل الأشياء كساءها الذي يناسب غناه،
أخلاق في التعامل، ذوق في الكلام، هداية في الروح.

وعقول الناس تبدأ بالالتقاط وتشكيل الشخصية من مراحل مبكرة جدا؛ تتبع، تقلّد، ثمّ تختار نهجًا وهوية.

ومع أوائل أيام الدراسة لأولئك الصغار زينة القلوب والبيوت مشاعر لا تنتهي..

هنالك بقرب بوابة المدرسة توقفتُ كثيرًا؛ لأنّ المواقف مزدحمة، مواقف الآباء مع صغارهم تلك التي تجعل قدمي متشبثة بمصافحة المكابح، بينما وقود قلبي لا يهدأ عن الحركة،
أحبّ هذا المنظر الحنون لتبادل الأحضان في استقبال الصغار الذي عانوا انفصالًا عن أهلهم لساعات بعد أنس طويل في بيوتهم طوال أشهر..

كلّ منهم يحكي بعينيه ودموعه، والتصاق جسده،
ذلك بقبضة أصابعه يعصر عباءة أمه، وذاك يندسّ خائر الحنين في ثوب والده.

ثم تؤويهم مركباتهم إلى أسوار البيوت، ليعودوا من الغد في رحلة الكدّ.
ثم ما هي سوى غمضة عين حتى نراهم بقبعات تخرجهم من الجامعة.
وهم إذ يتوَّجون على منصّات التكريم يومذاك فإنّما يتوِّجون جهدنا معهم، وآمالنا فيهم.
اللهم احفظهم بحفظك.

إليكم نشيد
غراس النور

وطبتم للأرض نورًا..

#خاطرة
#نشيد

https://youtu.be/V8DVsZenVU0

YouTube

غراس النور - كلمات:رغدة أبوبكر كردي-أداء:محمد الباشا

https://t.me/Sha6eAlraghad

ذاك الذي يشعر بالاختناق عند تناول المكسرات وكلّما رآها لم يقاومها وبدأ يأكل أكثر؛ ستنظر إليه في كل مرة بشفقة وحب لكنّك ستنتزع منه ما حوت يديه منها حتى لا يضرّ نفسه؛ لأنه لم يصل إلى الوعي الذي يجعله يراها كشبح مخيف.

نفوسنا المتلهّفة لما تشتهيه وهي تعلم تمامًا ماهي آثار ذلك وتصوّر لك اللذة منحصرة في صنف تعلم أنه يفتنك… يضلّك.. يحيد بك عن صراط الله المستقيم؛ عليك أن تجرّب مع نفسك تلقاء هذا الاندفاع بعض الحزم، وتقطع عليها سُكْر التفكير بدوام التذكير بشؤم التأثير..
ولا تيأس!
نعم قد تستعطفك مرة واثنين وثلاثة..
قد تخبرك أن حبة واحدة من تلك الفتنة لن تضرّك، لكنّها ستأتيك بالضبط بالحيلة المعروفة: "ألا أدلك على شجرة الخلد؟" لتصوّر لك الشعور الذي لا يوصف عندما تتقدّم للقطْف، وإنما هي القطفة التي تفصلك عن كل شيء، وتغيّر لك المشهد!

الحبة الأولى هي الرعب الذي بينك وبين هيبة التجربة.
الحبة الأولى هي الثقب الأول في جدارٍ منيع تعبت وأنت تبنيه، إذا ثُقِب فقد فتحت المغلق، وسلّمت المفتاح إلى اللصّ وعرّفته على كنوزك..

إن جرّبتها وأدركت الآن بعد خبرة ماذا تعني تلك "الأولى" من كل شيء؛
فآن أن تجرّب العكس..
أن تتوقف!
آن لكلّ تلك الخطوات التي سمحتَ لقدميك أن تسيرها وعرفت خطأها أن تعود،
كلّما أغلقت الباب من أوّله نجوت،
كلّا لم يتأخر الوقت ولم يفُت الأوان ، مهما حدّثتك نفسك..

اربط حزام الأمان
ابدأ الآن
لأن الأنفاس معك

ستعرف أن الرجوع أصعب بكثير من الخطوة الأولى لكنّه ممكن!
اطلب ربّك
ليس بجسدك بل بقلبك عُد
وبمشاعرك جُد
وعش لحظات سكينة تُكسب قلبك أكسجين لا يجرّبه كل الناس، يكون في رئتيك نقيّا وينتشر نقاؤه حيثما سِرت..
لا شيء يستحق أن تعيش مسكنة لأجله في الدنيا إلا تلك اللحظة الجليلة وأنت في خلوتك متمسكنًا حييًّا من الله
هنالك مرحبًا بالمسكنة، افرش في فنائها ضعفك وزيًنه وطرّز أطرافه وإن شئت ضخّمه كما يحلو لك؛
كلّما ضخمته ودلّلتَ نفسك في رحاب المساكين الفقراء لله كلما أغنى لك قلبك ورأيت الحياة في منظورها الصحيح.
كلّما تركت الكبرياء الذي هو رداء لله وحده سبحانه، كلّما ألبسك من أفضل أثواب البشر صدقًا وكمالًا واتزانًا..

إن كنت تشكو تخمة من النعم، واستبدّ الرجاء في حياتك حتى مدّ عينيك ورفع الحجْب عن كل الحدود وضيّق على خوفك من الله السبيل، فتجوّل مواسيًا مأجورًا في رحلة بين أسرّة المرضى واسمع قصصهم وأمنياتهم؛
ثم حدثني كيف عادت روحك؟

قال مسلم بن يسار: "ماأدري فيم خوف امرئ ورجاؤه إذا لم يمنعاه من ركوب شهوة إن عرضت له، أو لم يصبّراه على مصيبة إن نزلت به؟".

كان في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "وأسألُكَ لذَّةَ النظرِ إلى وجهِكَ ، والشوْقَ إلى لقائِكَ في غيرِ ضراءَ مُضِرَّةٍ ، ولا فتنةٍ مُضِلَّةٍ".
لا شيء أحلى في الدنيا من أن تحيا هذا الشوق، ذلك الشعور الذي ربما تسرقه منّا لحظات الرخاء وتعيده إلينا لحظات الشدة،
ذلك الشوق الفريد إلى لقاء المحبوب الأعظم؛
الشوق إلى لقاء الله…

#خاطرة

https://t.me/Sha6eAlraghad

Telegram

شاطئ الرغد

مساحةٌ أرجو بها خيرًا، وأرى في الحرف رسالة وآمالاً.. كل أسبوع ترسو هنا حروفي: قصائد، وخواطر، و وقفاتٌ قرآنية/ نبوية. أبث حبر قلمي وأشارك الفِكر والفائدة. انضمامكم للقناة بهجة و شرف ومنّة منكم.. أختكم: رغدة أبوبكر كردي

طال الإبحار
وحان الوصول..
الحمدلله على فضله ونعمائه ..
…

دنا الميناءُ واسترخى العُبابُ
وصلت بمركبي ورسا الخطابُ

مضى عمرٌ على وعثاء كهفي
وهذا المكثُ في سَفري مُهابُ

دعوتُ هدايةً ولطيفَ رُشدٍ
وطيَّ البعْدِ إذ طال الغيابُ

جثوتُ أناشد الصفحات لطفًا
وحبري في مفاصلها مُذابُ

نظرتُ إلى لفيف الغصن يحنو
على لحنٍ يغرّده كتابُ

كتابٌ كالحياة لتيه روحي
كنور الشمس إن حلّ الضبابُ

أضيقُ إذا اعلّ الجهد أفْقي
وما برحتْ معي أرضٌ رِحابُ

طلبتُ العلم فيه بسطتُ سؤلي
فَلَانَ الحرف و انبجس الجوابُ

ظمئتُ له..سقيتُ يباسَ بحثي
ليزهر في مشاربه اليبابُ

ولمّا أن فتحتُ البابَ وافى
على طول المدى بابٌ وبابُ

وإن العلمَ ما يرُجى لنفعٍ
وذي الدرجات- إن عظمتْ- ثيابُ

عسى المولى يبلغنا مقامًا
رغيدًا فيه أحمد والصحابُ

رغدة كردي
#شعر

https://youtu.be/RMljbKipZlk

YouTube

ميناء- كلمات: رغدة أبوبكر كردي-أداء: أيمن مراد

https://t.me/Sha6eAlraghad

لم تكن من طقوس الصباح أن أتفقّد الأخبار إلى أن جاء موعد توجّع غزة، أصبحت جزءًا من يومي إن لم تكن كلّه، ليس منّة ولا فضلًا، جزء من أخوة الدين وحقّ تقاسم المشاعر، إنها الحرب الأولى التي تغيّر نظرتي للأشياء والأفكار والحياة إلى هذا الحد.. وزنت غزة مذاق كل شيء..…

Telegram

شاطئ الرغد

مساحةٌ أرجو بها خيرًا، وأرى في الحرف رسالة وآمالاً.. كل أسبوع ترسو هنا حروفي: قصائد، وخواطر، و وقفاتٌ قرآنية/ نبوية. أبث حبر قلمي وأشارك الفِكر والفائدة. انضمامكم للقناة بهجة و شرف ومنّة منكم.. أختكم: رغدة أبوبكر كردي

يأسرني في قراءة الحديث سياقه ودقة الصحابة رضي الله عنهم في روايتهم لما يسمعون ويشاهدون منه صلى الله عليه وسلم.
وأكثر ما يشغلني في السياق ويجذب لبّي ويرحل بفكري طريقة تعبيرهم عن مشاعرهم وإظهار حبّهم بطرائقهم الخاصة.

رجل يدخل على زوجته حتى يخطط كيف يسعد رسول الله؟
لم يكن ذلك عفوًا بل
يذكر رهافة شعوره لإحساس حبيبه صلى الله عليه وسلم:
"سَمِعْتُ صَوْتَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ضَعِيفًا، أعْرِفُ فيه الجُوعَ".
لا أستطيع مغادرة هاتين الجملتين، تخالط النفَس.. تسامر القلب
كلما قرأتها أعدتها..
وكلما مررت بالحديث شعرت بالدهشة الخطّافة تسارقني وكأنها القراءة الأولى ..
أي شيء يجعل الأذن تسمع الجوع..!
الصوت الضعيف ربما يكون مرضا، تعبا، إجهادًا…
لكن أن تأتي هذه الجملة الواثقة التي تقرأ النبرات "أعرف فيه الجوع"؛ فلا أحسب ذلك يأتي إلا من صاحب يعلم نبرات صاحبه كلّها..
يميّز خفيّها وجليّها..
قوّتها وضعفها..
وقد تغيّرت عليه نبرة صاحبه بما لا يشك فيه أن الجوع غيّرها.
ويظلّ لنبرة الصوت حديث لا يفهمه إلا قلة..
قلةٌ يفهمون كلامًا من ضعف الصوت أو من اتّقاده ..
أن يكون القلب حاضرًا بذكاء عاطفي يتحسس عبره نبرةً يخفيها المحبّ عن حبيبه فتلك حياة ونعيم..

ثمّ العجب من تلك الزوجة التي تختار خمارها لتلفّ فيه أقراص شعير حتى يرسَل بتلك الحفاوة من رهافة الحسّ ونبل الموقف وجمال الإيثار آمرةً الخادم أن يجعله تحت ذراعه ليصل حارًّا إلى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لله الإحساس الذي أزهر المشاعر!
لله الخمار الذي أتى بالبشائر!

ثم الأعجب ..الأعجب حقًّا..
معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنظرة للبشير من مُرسِله وبماذا أرسله، ما إن قدِم عليه أنس فقام على الناس حتى قال له رسول الله: أرسلك أبو طلحة؟

ثمّ الوقفة العظيمة من مجمل الحديث أن رسول الله أحسّ بالجوع الذي وصل به إلى أن يضعف صوته صلى الله عليه وسلم وهو رسول الله إلى خلقه، وكما ورد ساعة ضربه الصخرة التي اعترضت في الخندق أنه كان يعصب بطنه بحجر ليحتمل جوعه صلى الله عليه وسلم .

ثمّ من كرم أخلاقه أنه لم يكن ليستأثر بطعامٍ أُرسل إليه يخصّه من دون الناس والحال عنده كما هي عندهم والقصّة من معجزة بركاته بتمامها لا تخفى.

إليكم سياق الحديث فيما روى البخاري :
يروي أنس بن مالك أن أبا طَلْحَةَ قال لِأُمِّ سُلَيْمٍ لقَدْ: سَمِعْتُ صَوْتَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ضَعِيفًا، أعْرِفُ فيه الجُوعَ، فَهلْ عِنْدَكِ مِن شيءٍ؟ فَقالَتْ: نَعَمْ، فأخْرَجَتْ أقْرَاصًا مِن شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا، فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ يَدِي وَلَاثَتْنِي بِبَعْضِهِ ثُمَّ أرْسَلَتْنِي إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَذَهَبْتُ فَوَجَدْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في المَسْجِدِ ومعهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عليهم، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أرْسَلَكَ أبو طَلْحَةَ؟ فَقُلتُ: نَعَمْ، قال: بطعام؟ فقلت: نعم … الحديث.

من جمال الوقفات التي أشار لها ابن الملقن في شرحه:
"سد الرجل خلة أخيه إذا علم منه حاجة نزلت به، من حيث لا يسأله ذَلِكَ، وهذا من مكارم الأخلاق".

وقال القاضي عياض تعقيبًا على قول:
" بطرف خمارها"؛ فيه - أيضاً - تجميل الرسول ما أهدته.
وقال في "لاثتني ببعضه": فيه مناولة الخادم من طعام مخدومه حتى لا يتعلق باله إليه، وتنازعه شهوته له، لاسيما الصبيان الصغار ومن يتعلق باله بالطعام.
وقال في: "ثم دسّته تحت يدي"؛ صيانة لما حمَله من ذلك، ولعله ليحبس ما فيها من دفء وسخانة.

يا الله!
لله المرأة التي فكّرت في كل تلك التفاصيل!
هذه العناية بخبايا الأمور لا ينبغي أن تغفل أبدًا؛ إذ تدلّ على ذوق رفيع وأخلاق فخمة.
ثم إنها تربية
حتى لا يفقد الإنسان في زحمة الحياة مشاعره.. رقّته.. تعبيره عن الحب بأرقى سبيل..

ولمّا انشرحت صدورهم بإسعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتسنّ لنا ذلك بصحبته فقد طوَت نوايانا من إسعاده باتباعه و بنشر سنّته..
فاللهم حظوةً برفقته في الفردوس الأعلى مع أحبابنا..

#خاطرة

https://t.me/Sha6eAlraghad

Telegram

شاطئ الرغد

مساحةٌ أرجو بها خيرًا، وأرى في الحرف رسالة وآمالاً.. كل أسبوع ترسو هنا حروفي: قصائد، وخواطر، و وقفاتٌ قرآنية/ نبوية. أبث حبر قلمي وأشارك الفِكر والفائدة. انضمامكم للقناة بهجة و شرف ومنّة منكم.. أختكم: رغدة أبوبكر كردي

مرّ نصفٌ مذ بشّر الشهر بتفتّح أبواب الجنان وإغلاق أبواب النيران؛ فهل أقبل القلب واتّقدت الجوارح وتسابقت الخطوات؟
فإن لم يكن بعدُ فالآن..
لازالت البشائر تظللنا .. وما فات الأوان..

قبل أيام فقط فوجئتُ بدهشة جديدة تطرق قلبي من بصائر كلمة في سياقها القرآني المعجز، لأوّل مرة أحسّ أنّ شعورًا جديدًا ينساب معها ؛ إنها "رضوا" في قوله تعالى: "رضوا بأن يكونوا مع الخوالف".
ربّما "يختار" عبدٌ طريقًا بدا شهيًّا يؤزّه فيه هواه، ويباركه عليه ذاك الذي يجري في دمه، ويرى أناسًا سبقوه فلا يستوحش، لكنه يعلم في قرارة نفسه خطأ الدرب، وميل القلب، وتنازع روحه بين السماء والأرض وهو يمضي، ويعقِد آماله في طول الحياة أنه وإن مضى فلن يصاحب تلك الطريق، إنما هي خطوةٌ فقط،
ثم يتفاجأ أن الخطوة تنادي الخطوة، حتى صار في عمق البحر ، وبعُد الشاطئ وعزّ الأمان ثمّ هنالك إمّا أن يستدرك عمره ويدعو خالصًا فينجيه الله ويحمده على نجاته من مهلَكَة، أو يألف مغامرة المجهول لمظنة لذة تأتي على أنقاض حياة القلب،
فإن أكمل رحلة التيه واستعذبها وصل إلى "الرضا" بما يصنع حتى يستطيع الحياة في الغيّ الجديد، إذ يستبعد طريق العودة، ويحاول ألّا يتألم من وخزات الضمير، عبر بناء "الرضا" عن عمله.

تلكم الكلمة هي "الرضا" في سياق التيه، الرضا بالسير عكس صراط الله المستقيم.

قال تعالى:
"رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)"-التوبة.
مكثتُ أردد:" رضوا" بأن يكونوا مع الخوالف!
هذا المعنى يدلّ على وصولهم إلى شعور يفوق الاختيار والإيثار والتفضيل، وكأنما هو مرحلة يجد الإنسان فيها سكون نفسه، إنها درجة الرضا.
في حين قال الله تعالى عن كعبٍ وصاحبيه رضي الله عنهم:
"وعلى الثلاثة الذين خُلّفوا"، بصيغة مالم يسمّ فاعله!
ياللسلوى !
أما أولئك ف"رضوا بأن يكونوا مع الخوالف"!

بعدما رنّت تلك الكلمة في داخلي، صحبتُ التفسير وقرأت عند ابن عاشور كعادته من جمال هذا الغوص في بحر اللغة ما يفوق به غيره فأجابني عن دهشتي: "وفي اختيار فعل { رضوا } إشعار بأنّ ما تلبّسوا به من الحال من شأنه أن يتردّد العاقل في قبوله كما تقدّم في قوله تعالى : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } [ التوبة : 38 ] وقوله : { إنكم رضيتم بالقعود أول مرة } [ التوبة : 83 ]".

ثم أصبح هذا المعنى أكثر حضورًا معي، لافتًا إلى أنّ هذا الرضا آفة وهو السرّ تجاه التثاقل عن عمل الآخرة، وتأتي آيات ذم الرضا القلبي بالحياة وجعله سببًا في التنحّي عن نصرة الله ورسوله في أكثر من موضع ، فقوله تعالى:
"إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ" [يونس:7]

"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَا لَكُمۡ إِذَا قِیلَ لَكُمُ ٱنفِرُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ أَرَضِیتُم بِٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا مِنَ ٱلۡـَٔاخِرَةِۚ فَمَا مَتَـٰعُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ إِلَّا قَلِیلٌ" [التوبة ٣٨]

قال ابن عاشور: "الِاسْتِفْهامُ في ﴿أرَضِيتُمْ بِالحَياةِ الدُّنْيا﴾ إنْكارِيٌ تَوْبِيخِيٌ، إذْ لا يَلِيقُ ذَلِكَ بِالمُؤْمِنِينَ.
و"مَن" في ﴿مِنَ الآخِرَةِ﴾ لِلْبَدَلِ: أيْ كَيْفَ تَرْضَوْنَ بِالحَياةِ الدُّنْيا بَدَلًا عَنِ الآخِرَةِ. ومِثْلُ ذَلِكَ لا يُرْضى بِهِ…؟
واخْتِيرَ فِعْلُ "رَضِيتُمْ "دُونَ نَحْوِ "آثَرْتُمْ" أوْ "فَضَّلْتُمْ": مُبالَغَةً في الإنْكارِ؛ لِأنَّ فِعْلَ (رَضِيَ بِكَذا) يَدُلُّ عَلى انْشِراحِ النَّفْسِ، ومِنهُ قَوْلُ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ في حَدِيثِ الغارِ ”فَشَرِبَ حَتّى رَضِيتُ“".

إذا رأيت نفسك دون اختيارك في شرّ ولم تستطع أن تنتقل عنه، فلا ترض بمكانك.
إذا لم يسعفك عملك في السبق إلى ما يحب الله لكنك لم ترض فأنت بخير..
حافظ على عدم رضاك عندما تخطئ..
تمسّك ولو بأضعف الإيمان وهو إنكار قلبك،
مدّ يديك واحمِ شُعلتك، كنور سراجٍ تخشى انطفاءته.

الرضا هو عدو النهوض والتحسين والتطور النفسي والإيماني في ميادين الآخرة.
قد يلجأ الإنسان إلى دفع تفكيره إلى الرضا حتى يخفف وطأة تأنيب الضمير، ويدور في أعذار وتبرير، حتى يستمرئ التخدير.

وأسوأ مافي الرضا عن التقصير أنه لا يكتفي فقط بهدأة ضميرك بل يجرّؤك على تكرار الخطأ وأنت تتبسم.
ثمّ تتصاعد نبرة تقبّل الذات في الخطاب الحديث وأول من يتلقّفها هذا الراضي، لأنها تصفق له وهو يمدد رجليه على أريكته في منطقة الراحة، في حين هو أولى الناس بالتغيير والتحول إلى طريق رضا الله الذي يخالف كليًّا رضا الهوى.

فاللهم تعلم
أننا نبذل في طريقنا إليك أقلَّ من وسعنا
وتجذبنا الدنيا
ونعرف كم قصّرنا
لكننا وأنت تشهد
"ما رضينا"
فامنن علينا بسبقٍ
إليكَ ترضاه فتُرضينا

#وقفة_قرآنية

https://t.me/Sha6eAlraghad

Telegram

شاطئ الرغد

مساحةٌ أرجو بها خيرًا، وأرى في الحرف رسالة وآمالاً.. كل أسبوع ترسو هنا حروفي: قصائد، وخواطر، و وقفاتٌ قرآنية/ نبوية. أبث حبر قلمي وأشارك الفِكر والفائدة. انضمامكم للقناة بهجة و شرف ومنّة منكم.. أختكم: رغدة أبوبكر كردي