القناة الرسمية والموثقة لـ أخبار وزارة التربية العراقية.
أخبار حصرية كل مايخص وزارة التربية العراقية.
تابع جديدنا لمشاهدة احدث الاخبار.
سيتم نقل احدث الاخبار العاجلة.
رابط مشاركة القناة :
https://t.me/DX_75
Last updated 1 year, 7 months ago
Last updated 1 month, 1 week ago
ذهب المُفكّر الهنديّ المسلم وحيد الدّين خان، إلى أنّ التعطّش الفِطريّ للعدل لدى البشر، ما هو إلّا دليل طبيعي على وجود اليوم الآخِر (يوم الفصل، اليوم الذي تُرَد فيه المظالِم لأصحابها).
تمامًا كما أنّ الظمأ إلى الماء شعور فطري يُولَد مع جميع الكائنات الحيّة دون سابقة تعلّم و دون اكتساب خارجيّ وإنّما هو شعور ذاتي نابع من الداخل.
بهذا المعنى الفلسفي، فإنّ الظمأ إلى الماء، دليل على وجود الماء، حتى وإن لم نكن قد وجدنا الماء بعد. حين تعطش الحيوانات تهيم في الصحراء بحثًا عن سائل عذب يدعى "الماء"، لا تعرفه ولا تعرف خصائصه لكنّها تعرف أنها بحاجته.
وكذلك العدل في الحياة الدنيا، لا يتحقّق دائمًا، يتعطّش له البشر، يرون بعض شواهده ويرونه غائبًا في كثير من الأحيان، ولكنهم يحسّون بوجوده المُطلَق في مكانٍ ما، ينتظرون حدوثه أو مجيئه، يتعطّشون له ويتطلّعون إليه في كل زمان وكل مكان.
فكرة عبقرية مفادها أنّ البشر دائمًا يشعرون أنّ الحكاية لم تنتهِ بعد، إذ ثمّة مظلومين ماتوا ولم يقتصّوا من ظُلّامهم، وثمّة أسرى ماتوا في أقبية السجون المُظلمة تحت الأرض ولمّا يشاهدوا مُعذّبيهم وهُم يتعذّبون ويتألّمون كما فعلوا بهم بغير وجه حق.
ثمّة صرخات لم يسمعها أحد، وحكايا من الظلم والقهر لم يعرف عنها أحد. هناك أصحاب الأخدود في سورة البروج، ماتوا حرقًا في بطن الأرض، والقرآن لا يخبرنا شيئًا عن ملكهم الظالم والاقتصاص منه في الحياة الدنيا، ولكنّ ثمّة آخرة، يحكم فيها عالم الغيب والشهادة بحكمه البليغ وعقابه الشديد.
ومن الدراسات العلمية المثيرة للغاية في حقل (علم نفس الأخلاق) والتي أجراها فريق بحثي في جامعة Yale المرموقة، والذي ترأسّه عالم النفس الشهير بول بلوم، حيث وجدت الدراسة أنّ الأطفال منذ ولادتهم، يُولَدون فطريًا منحازين لتفضيلات أخلاقية واضحة منذ عمر 3 شهور!! لقيم أخلاقية مثل العدل والرحمة.
وهناك تفاصيل لطيفة للطريقة التي جرى بها تنفيذ الدراسة عبر عرض مشاهد تمثيلية للأطفال الرضّع، يتعرّض فيها أحد المجسّمات للظلم من قبل مُجسّم آخر، ثمّ يأتي مُجسّم ثالث لاحقًا يقوم بعقاب المجسّم (الظالم) بسبب الظلم الذي أوقعه. وقد وُجد أنّ الأطفال يختارون المجسّم الذي قام بالاقتصاص من الظالم ويفضّلونه على جميع الأجسام الأخرى.
إنّ الفرح لمشاهد تحرير السجناء، والاقتصاص من المجرمين، هذا شعور فطري أصيل، يتّسق مع كلّ نفس حرّة، تعرف الظلم وتعرف بطلانه، وتعرف أنّه لا ينبغي أن يدوم، وأنّ لهذا الوجود، يوم تُوضع فيه الموازين القسط، فلا تُظلَم نفسٌ شيئًا.
أقول هذا لأنّ من الّلوثات الإدراكية التي أحلّها الخطاب الاستعماري والخطاب الغربي في العالَم، تقديس السلام على حساب المظالم، وتعظيم التسامح على حساب الحقوق، وذمّ الغضب أو القتال بالمطلق.
وأحد الفروقات الأساسية بين التصوّر الإسلامي للإنسان، وبين علم النفس الغربيّ: مفهوم (الغضب) Anger
في المنظور الغربي، الغضب دائمًا مذموم، وسيخبرك الأطبّاء النفسيون والمعالجون عن ضرورة ترويض الغضب، وضرورة إدارة الغضب Anger Management وكلّ تلك النماذج العلاجية للتخلّص من الغضب.
أمّا في التصوّر الإسلامي، فالغضب، مذموم في أحيان كثيرة (لا تغضب، ليس الشديد بالصّرعة)، ولكنّه مشروع في أحيان أخرى، إنّه شعور بشري أصيل تعترف به المنظومة الإسلامية (أتعجبون من غيرة سعد؟) والغضب لانتهاك محارم الله.
وقد اعتبر القرآن اعتبارًا سيكولوجيًا نوعيًا في مشروعية القتال حين قال (ويشفِ صدورَ قومٍ مؤمنين) ومن أسماء الله عزّ وجلّ (المنتقم) ومن صفاته أنّه عزيز ذو انتقام.
والمشكلة الأساسية في الخطاب الغربي المتمركز حول (نبذ الغضب) أنّه يُغفل الفروقات السلطوية في الخلافات بين البشر، إنه يفترض أنّ أي خلاف هو خلاف أفقي يجب أن يُحلّ بالتواصل والتفاهم.
مع أنّ واقع الحال يشهد أنّ البشر يُوقعون الظلم ببعضهم من موقعيات مختلفة، هي في غالبها ظلم يقع من طرف أقوى على طرف أضعف، ومن طرف متمكّن على طرف مستضعف، ومن طرف شديد الدهاء على طرف شديد السذاجة، وهي كلّها أشكال لا تُبرّر ولا تُحلّ بالتفاهم فقط، وإنما تحتاج أولًا لإحقاق الحق وردّ المظالم لأصحابها.
وهذه بالمناسبة واحدة من الخلافات الأساسية بين (علم النفس التحرّري) و (علم النفس الغربي). ويرى باولو فريري المُعلّم والفيلسوف البرازيلي أنّ (الغضب المشروع) و (الأمل النقدي) أهم عناصر التحرر من الأوضاع القهرية.
بهذا المعنى، فإنّي كإنسان:
لديّ الحقّ في أن أكون غاضبًا
ولديّ الحقّ في التعبير عن غضبي
ويبنغي أن أوظّف هذا الغضب كأساس وباعث لإحقاق الحق والتغيير الأخلاقي
الفطرة السليمة تستاء من الظلم وتشعر بالإهانة الشخصية إذا تعرّض أيّ إنسان على وجه الأرض للظلم
وقد جاء في الحديث القدسيّ:
يا عبادي!
إنّي حرمت الظلم على نفسي
وجعلته بينكم مُحرّمًا.. فلا تظالموا!
**العيش في الحياة الحديثة يُشبه الركض على جهاز المشي Treadmill
في جهاز المشي، أنت تركض ولكنك لا تتقدّم للأمام
وتستمر بالركض كي تبقى مكانك
ولا ينبغي أن تتوقّف عن الركض وإلا سترتطم بالأرض!**
هذا التشبيه الذكي يستخدمه الفيلسوف ميشيل سار كي يصف علاقتنا كأفراد في عالم اليوم. عالم شديد التغيّر، كثير التقلّب، يتطلّب حركة مستمرة، يستنزفك باستمرار ويُدخلك دوامة الاحتراق النفسي بين الحين والآخر.
في نهاية كل سنة، يجد الإنسان نفسه مُحاصرًا أمام كل تلك المنشورات والمقاطع التي تملأ منصات التواصل الاجتماعيّ، وتخبره عمّا ينبغي فعله في العام الجديد، وعرض كل تلك الإنجازات العظيمة التي قام بها الأصدقاء في العام الفائت.
هناك العديد من المبالغات بطبيعة الحال، فمن المفترض أنك قد كبرت ونضجت وصرت تعرف أنّ:
عدم مشاهدتك لهذه الـ 5 أفلام، لم تتسبّب في خسارتك لنصف عمرك، كما قيل لك!
وقراءتك لهذه العشر كتب لم تجعلك إنسانًا أفضل بالضرورة!
وهذه الثلاث خطوات التي وجدتها في أحد المنشورات لم تغير حياتك 180 درجة!
وقد يخبرك البعض أنّها ستغيّر حياتك 360 درجة، وهذه أكثرها مصداقية، لأنك ستعود حيث بدأت.
هذا السيل العارم من التعليمات والنصائح يجعلنا ندرك تمامًا ما الذي يعنيه المفكّرون حين يصفون الإنسان المعاصر بأنّه:
ذات مُحاصَرة
Self Under Siege
إنك تشعر في نهاية كل عام بأنك إنسان محاصر، بجميع هذه الخطابات.
مُتأخّر، ولديك الكثير لتنجزه والكثير كي تسعى له في عامك الجديد، أليس كذلك؟
يسوءك أن تفوتك جميع هذه المسلسلات التي يتحدثون عنها، ويزعجك ألا تعرف تلك الرواية التي يشير إليها الجميع. وثمة حمية غذائية جديدة دارجة، يكتب الجميع عن مدى روعتها!
تصير المشكلة مضاعفة، إن كنت من قبل تعيش حياتك تائهًا، تمشي مُكبًّا على وجهك، تحيا بلا أي هدف. حينها وعندما تقرأ أحد هذه المنشورات، تأتيك رغبة مُلحّة بالبدء والمسارعة، وتشعر كما لو أنّ عليك الركض في جميع الاتّجاهات بالوقت نفسه!
من المعروف عالميًا أنّ رأس السنة هو الشهر الذي يحصد أعلى نسبة من الاشتراكات في النوادي الرياضية. إنّها نتيجة طبيعية لخطابات عديدة، تجعلك تشعر بالتقصير حيال نفسك، وتشعر بالذنب حيال نمط حياتك الذي لم تكن تجد فيه أي مشكلة بالأساس قبل قرائتك لتلك المنشورات.
لحظة!
هل التغيير للأفضل شيء خاطئ؟
ولماذا كل هذا النقد لمنشورات حسنة النوايا، تهدف لتوجيه الناس لتحسين حياتهم؟
بالطبع التغيير للأفضل مطلوب، ونصح النّاس من المعروف الذي لا يُعدَم.
لكن.. هناك خيط رفيع يفصل بين (نُصح الناس) و "ادّعاء معرفة" ما هو أصوب لهم!
وهناك خيط رفيع بين (النصائح المثبتة علميًا) و بين "التباهي" بمنجزاتك الشخصية
وهناك خيط رفيع بين (النصيحة القابلة للتعميم) و (التجارب الشخصية الناجحة) التي لا يمكن تعميمها
وثمّة خيط رفيع بين أهمّية (التغيير للأفضل) وبين "عبادة التغيير" من أجل التغيير
هذا ليس تسخيفًا من توصيات الكتب والنصائح الجيدة أو من منشورات العام الجديد
هذا تنبيه لطيف لكي تهوّن على نفسك، أنتَ إنسان، وهناك حدود لبشريتك!
وأريد أن أشير سريعًا لبعض النقاط:
1. ما يهمّ غيرك، لا يهمّك بالضرورةولهذا ميّز بين ما تريده، وبين ما تمّ إيهامك بأنّكَ تريده.
2. ظروفك الجيّدة ليست متاحة لجميع النّاس
ولادتك في عائلة متماسكة، وعدم إصابة شقيقتك بالسرطان، وعدم اضطرارك للعمل لساعات طويلة، وكفاية الله لك من سؤال النّاس بسبب الفقر والحاجة، كلّ هذه معطيات لم تخترها لنفسك، وإنما هي من فضل الرحيم الكريم. لذلك لا تكن لئيمًا يفرض نجاحاته الشخصية كتعليمات على الآخرين.
3. أنتَ لستَ إلهًا: لا يمكنك أن تصير كلّ ما تريده
لا يمكنك أن تسلك كل تلك المسارات التي سار بها الآخرون، لا يمكنك أن تصير الأقوى والأسرع والأجمل والأكثر سفرًا والأكثر قراءةً والأكثر تخصصًا. اختيارك لأي مسار في هذه الحياة، يقابله ثمن تدفعه في خسارة مسارات أخرى.
4. كثرة الحركة لا تعني أنّك تحرز تقدّمًا
بفعل خطابات زائفة، شاع أن يُساء النظر للاستقرار بوصفه تخلّفًا (التوقف عن الركض) لكن من المهم أن تتعلّم فنّ (الاكتفاء) أن أحدّد ما يكفيني ويهمّني في هذه الحياة، وأن تدرك أنّ الركض والتغيّر الدائم ليسا مطلوبَين لذاتهما.
5. لا تنسَ ما هي وجهتك الرئيسية
القرآن لم يقل لك: لا تنسَ نصيبك من (الآخرة)! القرآن يقول لك أن الدار الآخرة هي الهدف الرئيسي في هذه الحياة، إذا قمتَ بتثبيت هذا الهدف، حينها لا تنسَ نصيبَك من الدنيا وليس العكس! ولذلك كل خطة تضعها لنفسك لا تضع فيها الآخرة في (المركز) ولا تحسن فيها اعتبار (التقوى) فهي خطة منحرفة وإن أعجبتك.
وأدعو لك بما دعى به الكنديّ في رسالته الحيلة لدفع الأحزان:
كفاكَ الله المُهم من أمرِ دُنياك وآخرتك
كفايةً تبلُغ بها: أكمل راحة وأطيب عَيش!
إنّ الذي فرض عليكَ القرآن.. لرادّك إلى مَعاد
من الأساليب العلاجية المعمول بها في العلاج النفسي وقت الأزمات والشدائد، أن تُعين مَن أصابه الجزع والخوف ممّا هو قادم أو ما سيجيء، على استحضار سابقة يقينية واضحة يعرفها في نفسه لمواجهة القادم المجهول والمُرعب.
تُسمّى هذه العملية في العلاج النفسي المعرفي بإعادة البناء الإدراكي Cognitive Restructuring ومن تطبيقاتها أن تبحث عن التجارب السابقة الناجحة واليقينية ومصادر القوّة التي امتلكها الإنسان سابقًا في حياته، واسترجاعها لتوكيد القدرة على تخطّي ما يستجدّ الآن من أزمات ومخاطر.
كان الرسول ﷺ خارجًا من مكّة، يطارده قومه، بعدما استنفذ الوسع في تبليغ قومه، وأُذن له بالهجرة.
كانت لحظة تاريخية "معقّدة" إن صحّ التعبير، تختلط فيها المشاعر والأفكار.. أن تخرج من بلادك مُطارَدًا مهمومًا، يحزنك قومك الذين تخلّوا عن فرصة عظيمة، فرصة إنقاذهم لأنفسهم في الدنيا والآخرة، يحزنك الأذى الذي يُلاحق أتباعك ولا تعرف مصيرهم، تجتاحك هواجس كثيرة ممّا سيكون، من نجاح درب الهجرة نفسه، من الوصول، ممّا بعد الوصول..
ليس معه إلّا الصدّيق، يطاردهم سُراقَة بن مالك يتقصّى أثرهم، تطلبه قريش، جادّة هذه المرّة وقد عزمت الأمر على أن تُنهي هذا المشروع مرّة واحدة وللأبد.
أنتَ الآن عزيزي القارئ، تعرف نهاية القصّة، مطمئن لنتيجة الأحداث، لكنّك لم تكن لتعرف ذلك لو كنت تعيش من داخل تلك الّلحظة التاريخية، وأنتَ أسير الحاضر، قاصر المعرفة، يُحيط بك "الغيب" من كلّ مكان، تقفز لاستنتاجات الخسارة والانهيار (كما تفعل الآن وأنت تراقب ما يجري) يبتلعك "الآن" ومجرياته وينهشك ما سيكون ومآلاته.
لو كنّا أبناء تلك اللحظة التاريخية، ببشريتنا وكامل قصورنا الإدراكي عن معرفة المستقبل وأحداثه، سنظنّ أنّها نهاية كلّ شيء، آلام مهدورة، ومعاناة لم تتوّج بنجاح الدعوة، وقناعات بعدم جدوى الدعوة المكّية بالأساس، دعوة قوم لم يؤمنوا بنهاية المطاف (حتّى تلك الّلحظة).
أتى جبريل عليه السلام الرسول ﷺ في منطقة ما بين مكّة والمدينة، هي "الجحفة" كما يذهب لذلك المفسّرون ومؤرّخو السيرة، وضمن سياق رقيق في سورة القصّص يستقرّ في نفس الرسول ﷺ تدبير اللطيف الخبير لموسى، يصنعه الربّ على عينه في قصر فرعون.
المفارقة الأساسية هنا، أنّ الله لم يصنع موسى في مكان آمن أو بعيد عن الأنظار، بل صنعه في قلب الحصن الفرعونيّ، كان موسى يتجهّز تمامًا حيث كانوا يحذرون! نعم حيث يحذرون وليس حيث ما لا يحذرون، صنعه القاهر فوق عباده أمام أعينهم، حيث يلقون بأبصارهم وأجهزتهم لإقصاء أي احتمال ولو صغير يتهدّد القصر الفرعونيّ.
القصص القرآني هنا ليس أرشيفًا لأحداث تاريخية سالفة ولا هو حكايا يستأنس بها النّاس قبل النّوم، وليست هروبًا من بؤس الواقع نحو رحابة الماضي، وإنّما كان لهذه القصص طابع إيماني خاصّ، يمنح الرسول شواهد يقينية مماثلة:
وعدنا أم موسى في لحظة يأس وأسى، وأعدنا لها ابنها كي تقرّ عينها
ووعدنا موسى وهو طريد، وأعدناه إلى مصر سيّد قومه يزلزل قصر واحدة من أكبر الحضارات في التاريخ
ثمّ قال له: (إنّ الذي فرض عليكَ القرآن) أعطاه المقدّمة الصلبة التي لا شكّ فيها.. هذا اليقينيّ الذي بين يديك، بفرائضه وأحكامه وشرائعه التي ألزمك إيّاها وقومك!
هل ترى هذا اليقيني الذي أُنزل عليك وتشرّبه صدرك ووعاه قلبك؟ هل ترى هذا الواضح، هذا البيان الفصل، هذا الكلام المُحكَم الذي تتلو آياته ويتلوها المؤمنون؟
مَن نزّله عليك، هو نفسه من سيُعيدكَ من حيث أُخرجت، هو نفسه سيعيدك وقال: رادُّك إلى (مَعاد) جعلها نكرة غير مُعرّفة، لأنّه مَعاد ليس كأيّ معاد، معاد يليق بك، معاد نصر وعزّة وتمكين (وهذا أحد الوجوه عند المفسّرين).
وكأنّه يقول له (إذا استقرّ عندك هذا) لزم أن تطمئن لذاك!
وهذه بالمناسبة من الوظائف الأساسية لقراءة تاريخ الأمم التي يقرّها القرآن: وكُلًّا نقصّ عليك من أنباء الرسل (ما نثبت به فؤادك) من تثبيت الفؤاد والاطمئنان في لحظات الخوف والجزع.
وقد ذكر الكنديّ في رسالته (الحيلة لدفع الأحزان) هذا النهج العلاجيّ:
"ومن لطيف الحيلة في ذلك تذكّر مُحزناتنا التي سلونا عنها قديمًا ومُحزنات غيرنا التي شاهدنا حزنهم عليها وسلوتهم عنها"
وهو نهج يُشبه تمامًا السلوان والمواساة التي قدّمها القرآن للرسول ﷺ في سورة الضحى.
وهذه الطريقة فعّالة لأنّ الخوف والجزع، يحصرنا بتفكير ضيّق يُسمّى بالعلاج النفسي Tunnel vision يتحوّل فيها إدراكنا كمن ينظر من خلال نفق، نحو مسار أو نهاية أحادية للأحداث وهذا يحرمنا أن نرى كل تلك المصادر والاحتمالات والتجارب المفيدة التي تحيط بنا.
**فالّلهم لا تجعلنا أسرى عقولنا
فقراء في أفهامنا، جزعين لجهلنا
ولا تستدرجنا بالقول عن العمل
ولا تفتنّا باليأس بعد الأمل**
تزخر لحظة (موت النبي ﷺ) بملامح سيكولوجية دقيقة، ادّعي أنها لم تحظَ بتحليلها النفسانيّ العميق من حيث أثرها على تصوّرات الأمّة تجاه أنفسهم وتاريخهم والآخرين.
إنّ أدنى قراءة لتاريخ الأمم والملوك، تجعلك مُتأهّبًا حسّاسًا لصورة "الموت الطبيعي" للساسّة والملوك والقادة والأنبياء، لأنّهم مستهدفون مُهدّدون يُزاحمون قوى أخرى بطبيعة الحال.
كان الرسول ﷺ، يملك أهم مشروع أُمَمي صاعد في المنطقة وكانت خطورة المشروع الجديد بالنسبة للحضارات القائمة واضحة بل ولها نبوءاتها القديمة.
وأنجز الرسول ﷺ مهمّة تثبيت الأمّة وسط تزاحم إمبراطوري شديد في محيط الجزيرة، وفي بيئة صعبة يملؤها فِتَن النفاق وكيد الأقلّيات وبُؤس البداوة داخل الجزيرة.
وبالرغم من هذا كلّه، لم يمت الرسول ﷺ مقتولًا ولا مغدورًا، كما لم يمت قبل اكتمال مشروعه، فلم يتركنا حيارى ولم يترك الدّين مبتورًا منقوصًا.
درّب أبو القاسم ﷺ صحابته على الاجتهاد، وألزمهم ممارسة الفقه، وكلّفهم قيادة السرايا، وعلّمهم الحكمة وتدبير شؤون أقوامهم، واحتساب الأموال وتقدير الزكاة، وعدم الغشّ والحرص في مراقبة الأشهر والأيام.
وأرسى منظومة الأسرة وعلاقة الزوج بزوجه وبابنته وأبيه وأمّه وأخوته، أخبركَ أن تطرق الباب على جارك ثلاثًا، أن تستأذن قبل الدخول، وأن تمشي في حاجة صديقك عنده أبلغ من أن تعتكف معتزلًا في محرابك.
اكتملت الدعوة بأركانها، وأنزلت آية التمام (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينًا) وقالت اليهود: لو أُنزلت علينا آية مثلها، لاتخذنا يوم نزولها عيدًا.
وشاهد الرسول ﷺ أمّته وهي تُصلّي دونه، خلف أبي بكر في لحظة سكينة اطمأنّ بها لانتقال المشروع من بعده، يرى أمّته يصلّون بنفس الطريقة التي علّمهم إيّاها وانشرح وهو يُسلّمهم handover إدارة الأمّة من بعده.
لكن ما الاسثنائي هنا؟
إذا نظرت لمعظم الأديان والطوائف القائمة في العالم، فإن علاقة المتدّينين بأديانهم غالبًا ما تتأسس على (الشعور بالذنب) Guilt تمامًا كما في التصور المسيحي والتصور الشيعي لعلاقة الفرد بإمامه ورسوله.
حين تأخذ جولة في كنائس أوروبا والمشرق، فستغرق ذهنيًا وشعوريًا بكلّ تلك اللوحات والفنون المُعبّرة عن لحظة الخذلان والمعاناة وحالة المظلومية والاضطهاد والشعور المُزمن بـ (عدم الاكتمال) للحظة تاريخية ماضية لم تسر بالاتجاه الصحيح.
هذه التعبيرات الفنية من المظلومية والدماء ولوم الذات وإثارة الشعور بالذنب في الدّين المسيحي لا تفترق عنها في شيء حالة المظلومية في المشروع الشيعي وعدد آخر من الأديان.
خلافًا لذلك كان موت الرسول ﷺ لحظة مكتملة، موت هادئ، تدريجي، موت يُحيطه الهيبة والسلام Peaceful وهذا يعني أن الرسول لم يترك أمته في حالة غضب وعجز وشعور بالذنب حيال نبيهم.
كان موت النبي حتميًا لكنّ صورته كانت طبيعية أكثر مما ينبغي، وهذا هو الفرق بين أن تترك وراءك (أمّة متصالحة مع العالم والوجود) وبين أن تترك وراءك "طائفة Cult" تحرّكها عناقيد الغضب والحقد تشعر بذنب الخذلان.
كان الصحابة نِعمَ الرجال نصروا رسولهم ووقّروه وكان أحبّ إليهم من أنفسهم وولدهم بالقول والفعل.
من هنا كانت علاقة المسلمين برسولهم آمنة Secure فنسبة أفراد الأمة إلى الرسول الكريم نسبة فخر واعتزاز وامتنان ولم تكن علاقة مأزومة يشوبها التوجّس والريبة بفعل التقصير والعجز وجلد الذات والحطّ منها.
هذا البُعد تحديدًا هو ما سيفتح لاحقًا ممكنات "العالَمية" بالنسبة للإسلام خلافًا للمشاريع الأخرى التي تملك حدودًا نظرية لقابليتها للتوسع والاستقرار والتي تسعى لاستذناب أشخاص جُدد غير مُذنبين بالأساس.
صُمّم الإسلام كي يكون مشروعًا أمّميًا مُستقرًّا حتّى في (أوقات الاستقرار وأزمنة الرخاء) مُستقلًّا بذاته، لا يحتاج عدوًّا كي يُبرّر وجوده.
خلافًا لكثير من الحركات الدينية، لم يُصمّم الإسلام كي يكون مشروعًا (انتقاميًا) يعجز عن التواجد إلا في حالة عُصابية مستمرة لتخليق العدو وممارسة الإسقاط النفسي projection عبر جلب لحظة تاريخية ماضوية وإسقاطها على الآخر ومن ثمّ محاربته وعدائه.
الملمح السيكولوجيّ الثاني المهم لـ (موت النبي)، والذي سأجيء عليه بالتفصيل في منشور آخر، فهو أنّ الإسلام قد يكون الدّين الوحيد الذي اعترف بأهلية العقل البشري عبر ختم النبوة. إذ وضع اعتبارًا لكفاءة الأتباع بغياب نبيّهم، وكأنّه يقول:
تملكون بين يديكم من المبادئ والقيم، ما يكفيكم حتى تُقام الساعة. وعالَمٌ فيه المسلمون يُقيمون الحقّ وينكرون الباطل، عالَمٌ لن يحتاج لنبيٍ آخر.
هكذا في لحظة واحدة انقطع خبر السماء، وانبعثت الأمّة واعترفت السماء بالعقل المسلم المُسدّد بالوحي كي يكون أمينًا على الناس والحق وناصرًا للمظلومين والضعفاء إلى يوم الدين.
فصلِّ الّلهم على سيدنا محمّد بن عبدالله، سيّد العُرب والعجم مُعلّم الناس الخير وآله وصحبه وسلّم
من تمام الإيمان وشهود أسماء الله في كونه وأقداره، أن يشهد المُؤمن ألطاف الله ليس فيما يحصل فحسب، وإنّما أن يلتقط ألطافه فيما لا يحصل وكان بإمكانه أن يحصل أيضًا، ولكنّ الله كفاه (الكافي) وجنّبه أمورًا لم يعلم عنها شيئًا.
يُنبّهنا القرآن لهذا الملمح الإيماني في سورة الكهف كي لا يقع المؤمن فريسة فخّ الاستحقاق المُتوهّم لنجاحاته.
فصاحب الجنّتين حين اغترّ بما لديه من ثراء وسعة وبركة في جنّاته، يأتي القرآن على لسان صاحبه المؤمن، كي يُنبهنا للمُمكنات الإحصائية الأخرى لحاله الذي عليه:
إنّه يقول له من الصحيح أنّك اليوم تملك هاتين الجنّتين العامرتين بثمارها وخيراتها..
لكن، كل هذه الأحوال السليمة مُعرّضة لمصائب لا يُمكن السيطرة عليها، كأن يصبها حُسبانًا (عذابًا) من السماء، وحينها لن تكون هذه الأرض غير قابلة للزراعة فحسب، بل عندها لن تكون قابلة لأن يطأها إنسان أساسًا أو أن يمشي عليها أحدٌ بقدميه (صعيدًا زلقًا).
احتمال إحصائي آخر، كان بإمكان الماء الذي يُحيط اليوم بجناتك، أن تبتلعه الأرض وأن يضيع مُشتّتًا في أجوافها وحين سيستحيل عليك إخراجه أو استخراجه أو الاستفادة منه أنت وجناتك كلّها.
هذا مَشهَد مُتكرّر في حياة الناس اليومية، خاصّة مع "لسعة" الأدمغة والأذهان التي تسبّبت بها علوم الإدارة وكُتيبات النجاح المعنونة بـ (كيف تصير ثريًا؟) و (كيف تُصبِح ناجحًا؟) وهذا الوهم المغلوط -إحصائيًا كما تشير الدراسات- من أنّ "النجاح" حتمي لمن يتّبع مجموعة خطوات محدّدة سيقولها لك خبير النجاح في كتابه.
هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، انتشار كلّ هذه الخطابات المأزومة التي تُغذّي هذه الهواجس اللاواعية للبشر ورغبة الإنسان اليوم لتأليه نفسه Deification، وجعل نفسه إلهًا يظنّ أنّه بتدخلاته يُمكنه أن يُحيّد جميع المتغيرات، أن يصرف عن نفسه الأذى وأن يجلب لنفسه الخير عبر خطوات حتمية.
والوجه الآخر لهذه الرغبة العُصابية لتأليه الذات: سعي الإنسان النّاجح لتعميم تجربته على الآخرين وكأنّ وصوله لما هو عليه إنّما هُو نتيجة طبيعية لعقله وتدبيره واجتهاده (إنّما أوتيته على علمٍ عندي).
تُسمّى هذه الظاهرة بـ "الغطرسة المعرفية" Epistemic Arrogance كما يصطلح عليها نسيم طالب المُختص بالإحصاء الرياضي، وهذه الغطرسة تعبير عن مبالغة البشر بقدراتهم على التنبّؤ بالأشياء التي ستحصل، بسبب ثقتهم المُفرطة بالمعرفة التي لديهم (التي هي في الغالب ضئيلة ومحدودة جدًّا إذا ما قيست بعدد المتغيرات الإحصائية التي تتحكّم بالظاهرة).
ومن الدراسات الشهيرة التي تقصّت ظاهرة (الغطرسة المعرفية) ما أجراه باحثان من جامعة هارفارد طلبوا فيها من المشاركين الإجابة على أسئلة مُحدّدة عن طريق اختيار مدى رقمي لإجاباتهم ما يُعطي مرونة وأريحية بالإجابات (مثال: "كم عدد أشجار الخشب الأحمر في متنزّه الخشب الأحمر بكاليفورنيا؟" والإجابة تكون: "أنا متأكد بنسبة 98٪ أن هناك عدد بين (س) و (ص) من الأشجار").
اكتشف الباحثون أن المشاركين، على الرغم من تأكّدهم بنسبة 98٪ من إجاباتهم، كانوا مخطئين في 45٪ من الأحيان! ومن المفارقات الطريفة أنّ المشاركين بالدراسة كانوا من حملة ماجستير إدارة الأعمال MBA من هارفارد.
بمعنى آخر، اختار المشاركون مدى ضيّق للإجابات، فأخطؤوا. كان بإمكانهم أن يزيدوا المدى كي يشمل الأرقام الصحيحة، لكنّهم وقعوا في فخّ (الغطرسة المعرفية) حين بالغوا في تقدير قدرتهم على التخمين والتنبّؤ، ولو اختاروا مدىً أوسع -معترفین بجهلهم- لحقّقوا نتائج أفضل بكثير.
من المهم أن ندرك أنّ ما تشير له الدراسة هنا، هو التفاوت الكبير بين ما نعرفه وما نظنّ أنّنا نعرفه. نحن متغطرسون لأنّنا نعتقد أنّنا نعرف أكثر مما نعرفه حقًا.
تذكّرنا هذه الدراسات بالأية الكريمة في سورة الزمر عن غطرسة الإنسان وشعوره بالاستحقاق:
**ثُمّ إذا خوّلناه نعمةً منّا.. قال إنّما أوتيته على علم
بل هي فتنة.. ولكنّ أكثرهم لا يعلمون**
الواقع بحسب المنطق الإحصائي المُعقّد:
مُقابل كُل شخص ناجح يُحدّثك عن نجاحه على الشاشات، ثمّة 99 شخص آخر يأكلون السردين على العشاء، كانوا قد اتّبعوا نفس الخطوات لكنّهم فشلوا تمامًا وخسروا كلّ ما لديهم.
يُعيدنا هذا المثال إلى علم النفس الإدراكي والانحياز النفسي الشهير المُسمّى "انحياز النجاة" Survivorship bias إنّ قصص النجاح تُلغي الوعي الإحصائي بأولئك الذين لم يتمكّنوا من النجاة وهُم كُثر، كما تُلغي دور التوفيق الإلهي وعناصر أخرى مثل التوقيت المناسب وتهيّؤ الظروف وهي أمور خارجة عن السيطرة تلعب الدور الأكبر في تحقيق النجاح.
كما يُذكّرنا هذا بمفهوم (المكتبة المُضادة) Antilibrary لدى أمبرتو إيكو، فالأهم من الكُتب التي قرأتها: الكُتب التي لم تقرأها، والكتب التي تعي أنّك لا تعلم عنها شيئًا.
إنّ وَعيك بحدود معرفتك وإدراكك لجهلك هو ما يجعلك إنسان واعي حقًّا وليس العكس.
في كتابه "المجتمع المفتوح وأعداؤه" يلتقط الفيلسوف النمساوي الشهير كارل بوبر، مفارقة فلسفية وعملية مهمة يُسمّيها:
مُفارقة التسامح Paradox of tolerance
بحسب بوبر، فإن التسامح غير المشروط مع جميع الأفكار والآراء لا بد وأن يُفضي تلقائيًا إلى اختفاء التسامح، أي أنّ أعتى الأنظمة العالمية تسامحًا لا بد وفي نهاية المطاف أن تُطالب بحقّها في "عدم التسامح" مع مَن هُم "ضد التسامح".
ما يستشكله بوبر على المجتمعات التي تدّعي القيم الليبرالية المطلقة والانفتاح غير المشروط مع الآخرين، هو أنّ "التسامح والتعدّدية" كفكرة مُقدّسة أو كقيمة أخلاقية مُطلقة بحدّ ذاتها، هي قيمة مأزومة بُنيَويًا وساقطة عمليًا، لأنّه ومن أجل حماية هذه القيمة، لا بد على المجتمع الليبرالي أن يُمارس قدرًا من اللاتسامح مع أولئك الذين لا يتسامحون مع فكرة التسامح.
في النُكتة التي يرويها سلافوي جيجك، حول المساواة المُزيفة والمَيل العُصابي للمِزاج الرأسمالي للعالم نحو خلق فروقات طبقية وعنصرية داخل حتّى أكثر الأنظمة أخلاقية، يروي:
في يوم السبت وفي أحد المعابد اليهودية (كنيس)..
يأتي الحاخام ويقول: إلهي! من أنا لأقف بين يديك، أنتَ العظيم وأنا نكرة لا شيء!
ثمّ يأتي رجلٌ غنيّ من أغنياء اليهود، ويقول: إلهي! من أنا؟ أنا نكرة تقف أمام عظمتك وجلالك وهيبتك!
ثُمّ يأتي رجلٌ فقير من فقراء اليهود، ويقول: يا رب! من أنا أمام عظمتك وجبروتك؟ أنا لا شيء!
وحين يسمع الرجلُ الغنيّ، الرجلَ الفقير يدعو ربّه بهذه الكلمات، يقوم بوكز الحاخام ويقول ساخطًا: هذا الفقير، مَن يظنّ نفسه.. كي يدعو الله مثلي ومثلك؟ كيف يجرؤ أن يقول للربّ كلامًا نقوله أنا وأنت وكأنّه مثلنا؟
تخبرنا النكتة أنّ بعض الحضارات وبعض النفوس كذلك، لا تستطيع أن تفهم نفسها إلّا من خلال "دونية الآخر" أو التواجد في أوساط يكون فيها الآخر أقلّ درجة أو أكثر فقرًا.
إنّ التواضع والتذلّل أمام الله الذي مارسه الرجل الغنيّ برفقة الحاخام، ليس إلّا أداء تمثيلي ومسرحي لإشباع الذات (يا لي من متواضع! رغم ثرائي الفاحش) ومُجرد طريقة أخرى لتأكيد المكانة الاجتماعية المُتفوّقة للأغنياء "المُتواضعين"
مَن يقف في أعلى التسلسل الهرمي الاجتماعي أو الحضاري، هو وحده من يُسمح له بإظهار التواضع والتسامح مع "الآخرين" الأقل مكانةً والأقل حضارةً، وحين تُقلَب الآية، سيشعر "مدّعو الحضارة" بالإهانة والإذلال.
يعكس حفل افتتاح الأولمبياد في باريس، أنّ المشروع الّليبرالي لم يعد مشروعًا لاحتواء "الآخر" وإنّما مشروع لإهانته ومعاداته. فالآخر لكي يكون آخرًا لا بُد أن يكون على مقاسنا، مُلوّن البشرة، أو مُعادي للأديان، أو متحوّل جنسيًا، أمّا "الآخر" كما يُريد أن يكون، بمشروعه الحضاريّ، وأصالته، وتقاليده وقيمه، فهذا غير مسموح!
تُشير دراسات الاستشراق وتفكيك الاستعمار، إلى أنّ الغرب انتقل في تعاطيه مع الحضارات الأخرى وشعوبها قد تنقّل في أربعة مستويات:
مرحلة (1): المجتمعات الأخرى بربرية وهمج، غير حضارية، تحتاج إلى تمدين وبنى تحتية (عبر الاستعمار)
مرحلة (2): المجتمعات الأخرى لُغز مثير، بحاجة لاستكشاف (التخييل الجنسي للمجتمعات الأخرى: ألف ليلة وليلة)
مرحلة (3): الحضارات الأخرى سلطوية متخلفة، بحاجة إلى المشروع الديمقراطي (أهداف التنمية المُستدامة)
مرحلة (4): المجتمعات الأخرى جاهلة، النساء مقهورات وكائنات طفولية تحتاج للتعليم والعمل (مشاريع المنظمات الدولية)
"الآخر" بالنسبة للغرب مشكلة دائمًا، إنه تذكير بعُقَده النفسية، وحدود مشروعه "الأخلاقي" لريادة العالم، ومن الواضح أن المرحلة الخامسة التي يتّجه نحوها الغرب هي "إقصاء الآخر" كمحاولة تسوية أخيرة قبل تعدّد الأقطاب.
وقد اشتهرت مقولة سارتر في مسرحيته: "الآخر هو الجحيم" قاصدًا بذلك عبء العلاقات الإنسانية ونظرات الآخرين تجاه الذات وإطلاق الأحكام على الفرد، وسعى المشروع التنويري للغرب للتحرّر من إطلاق الأحكام التقليدية، وتوفير مساحة آمنة "للذات" عبر الفردانية، يصير فيها الإنسان ما يريد دون أن يتمّ الحكم عليه being judged.
لكن هذا الهاجس من عدم إطلاق الأحكام على الآخرين، نجم عنه أكبر مشروع إطلاق أحكام judgmental في التاريخ، فصار الغربيون اليوم أكثر جماعة بشرية تَصِم الآخرين بوصمات التخلّف والإرهاب والانغلاق وأكثرها حساسية تجاه "الآخر" المخالف!
الفيلسوف الألماني-الكوري بيونغ تشول هان، يصطلح على هذه الظاهرة اسم:
"إقصاء الآخر" أو طرده Expulsion of the Other
إنّ شدّة التركيز على "قبول الآخر" هي في الحقيقة توجّس عميق ممّا يُمكن أن يكونه الآخر، وأنّ النتيجة الحقيقية لهاجس التعدّدية هو (شيوع التشابه)
إنّها محاولة لتوحيد الآخرين، كي يكونوا آخرين ضمن الخيارات المُتاحة (متحوّل جنسيًا، أقلّية، إنسان يُعرّف نفسه بوصفه كلب أو أريكة..) إنّها تقليل للآخرية وللغَيرية، كي يكون الآخر متوقّعًا ومنزوعًا من أي مشروع حضاري بديل.
**تعلّموا اليقين.. فإنّي أتعلّمه
عن كمّية التعقيد السيكولوجيّ في سلوك المُقاومين**
أعيد بكامل وجداني المشهد مرارًا وتكرارًا، تختلط فيّ مشاعر الدهشة والفخر وآلام الراحلين
واعتقد أنّها المرّة الأولى التي أشاهد فيها مقطعًا أكثر من مائة مرّة، جولات عدّة..
جولة لعقلي: بحثًا عن لغة شارحة لهذه العظمة
جولة لعيناي: إجلالًا لهيبة الإرادة الحرّة
جَولة لقلبي: كي يتعلّم شيئًا من اليقين الذي يعرفه الشهداء
لستُ هنا في جراحة تجميلية لدماء الشهداء، ولا في مَهمّة لتقديس الفعل المُقاوِم، فالشهادة فعلٌ مُكتفٍ بذاته
لكنّ التفاصيل يا سادة! التفاصيل.. تنتمي لعوالم إلهية، لا نعرف عنها شيئًا
المُقاوِم الأوّل | أن تُقتَل وقوفًا بين زخّات الرصّاص
المشهد الأوّل: عقب إصابته، فورًا، قبل أن يستوعب آلامه، دون حتّى أن يُكلّف نفسه عناء النظر إلى تفاصيل إصابته
المشهد الثاني: يُسارع المقاوم الأوّل للوقوف كالجبل الشامخ.. كان بإمكانه أن يزحف، وهذا أليَق بإصابته، لكنّه اختار الوقوف
المشهد الثالث: يأتينا الدرس التالي من علم المُتّجهات الهندسية، عن الفرق بين الكمّية القياسية Scalar وبين الكمّية المُتّجهة Vector
يندفع المقاوم نحو نقطة الاشتباك، المقاوم هُنا له زخمه الخاصّ واتّجاهه المُحدّد مُسبقًا، وليس زخمًا بلا اتّجاه
المشهد الرابع: من المهمّ جدًّا يا سادة أن ننتبه لتفاصيل اتّكائة المقاوم بوضعية التصويب، إنّه لم يأتِ للموت ولا بحثًا عن خلاص لآلامه
هذا المقاتل لم يعاود الاشتباك كي يُخلّص حياته، وإنّما اتّخذ وضعية التصويب، إنّه يبحث عن أهداف
إنّها وضعية هجومية يعرفها خبراء العسكرية بوضعية الاتّكاء والتمترس Barricade Position
المُقاوم هُنا كيان مُفترِس، جسد منفصل عن آلامه، المُقاوِم يُطارد أعداءه حتّى الرمق الأخير
إنّه الإصرار على (الإقبال) بالمفهوم القرآني العميق، إنّها براءة الذات من أيّ احتمال أو اشتباه للتلطّخ بوحل (الإدبار)
المُقاومِ الثاني | ضد الطبيعي والمألوف والمُتوقّع
برأيي الشخصيّ، المُقاوم الثاني لا يقلّ تعقيدًا عن المُقاوِم الأوّل، لأنّه يُصرّ على العودة لنقطة الاشتباك في أوج استهدافها
يُعطينا المقاوِم الثاني درسًا للتفريق بين (الإنسان القادر) و(الإنسان الحرّ)، عن الفرق بين (القدرة) و(الإرادة) وشروحات كثيرة هنا، لا يتّسع المقام لذكرها
أن تكونَ قادرًا لا يعني أن تكونَ حرًّا، وأن تكونَ حرًّا يعني أنّك حرقت قواميس القدرة وراءك
كان المقاوم الثاني يملك خيارات عدّة لإعادة التموضع، للبزوغ من نقطة اشتباك جديدة، لكنّه لم يُرِد أن يخذل أخاه
أراد استكمال المَسير، أراد التأكيد على إرادة أخيه من قبل، أصرّ على إعادة الاشتباك من نفس النقطة
كي يعلَم العدوّ، أنّه إنّما يُسقط الأجساد لا الإرادة، الإرادة واحدة، الأجساد تتعدّد
إنّه درس في العزّة والأنفة والشجاعة، درس في الإيمان الذي يصدّقه العَمَل
إنّه الدرس الأكبر الذي قال عنه شَريعتي ذات مرّة:
**يأتي الشهيد كي يُعلّم النّاس أنّ: "الشهادة" ليست "خسارة" ولكنّها "اختيار"
اختيار المُجاهد للتضحيّة على أعتاب محراب الحرية ومعبد الحب، إنّه اختيار النصر!**
القناة الرسمية والموثقة لـ أخبار وزارة التربية العراقية.
أخبار حصرية كل مايخص وزارة التربية العراقية.
تابع جديدنا لمشاهدة احدث الاخبار.
سيتم نقل احدث الاخبار العاجلة.
رابط مشاركة القناة :
https://t.me/DX_75
Last updated 1 year, 7 months ago
Last updated 1 month, 1 week ago