انتفعتُ من قول سيدنا عيسى عليه السلام: (وَجَعَلَنِي مُباركًا أينَ ما كنتُ) تركيزه على نفسه، لا على المحيط أو الأشخاص؛ [أنا، المبارك، أين ما كنت] تاركًا ما هو خارج نطاق تحكّمه خَلفَه، لا يأبه إذا حَلّ في زمانٍ غابر، أو مكانٍ شائن، همُّه نفسه؛ أن يكون المُباركَ وإنْ انتفَت البركة عن كل مَن سواه، والمُصلحَ مهما ماجت الأوضاع ومالت، هو النور عند اشتداد الحُلكَة، وهو الثابتُ النافعُ المِعطَاء الذي يخضَرُّ الثرى عقب خطوته أينما مَر.. هذا ما أريده لنفسي، ولكم كذلك، هذا ما يليق بنا كمسلمين.

---
{وجَعَلَنِي مُبَاركًا أينَ ما كُنتُ}
قال مُجاهد: وجعلني مُعلِّمًا للخير، نَفَّـاعًا.

الإنسان بِنَاءُ الله، لعنَ الله مَنْ هدمه.

كان طفلًا هادئًا قليل الكلام على غير عادة الأطفال في عمره، حتى أنه لا يكاد ينبس ببنت شفة في حضرة الغرباء، لكنه وبشكل ما ينطلق في الحديث واللعب معي وسط استغراب والدته، وكنت أنا نفسي تعلوني دهشة أصم يسمع للمرة الأولى حين ينبعث صوته مُتراقصًا من حنجرته.
لا أذكر بالتحديد اللحظة الجوهرية التي مددنا فيها حِبال الأُلفة، لكني أعي أني وبَّختُه مرة أو مرتين لأسباب وجيهة بالطبع، في موقفٍ لو حصل مع أحد الكبار لنتجت عنه حزازة في النفس لا تنجلي بسهولة؛ لهذا السبب بالضبط أُعَوِّل على مَحبة الأطفال، كم تمتد مساحات البياض بها لتسع توبيخنا المُستحَق، وهفواتنا الصغيرة، وتقطيبة حاجبينا، وإشاحاتنا اللا متعمدة، وكم تجيء ناصعة، ونقية، وكم يكبر القلب بها ويتسع، وأتعلم منها تجليات "مخموم القلب" التي ذَكرها نبينا الكريم، وأعي بها قول بدوي الجبل:
"وتخفق في قلبي قلوبٌ كثيرةٌ ** لقد كان شِعبًا واحدًا فتشعبا".

من المعتقدات الخاطئة الشائعة التي تجعل الكثير منا لا يقدر على المداومة على صلاة الوتر اقترانه بالشفع، أو بركعاتِ الليل..

يظن البعض أنّ لا وتر لمَن لم يَقُم الليل، وهذا خطأ، ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«مَن أحبَّ أن يُوتر بخمسٍ فليفعل، ومَن أحبَّ أن يُوتر بثلاثٍ فليفعل، ومَن أحبَّ أن يُوتر بواحدةٍ فليفعل.»

فالوتر أقلّه ركعة واحدة من آخر الليل، أو من وسط الليل، أو من أول الليل، كافٍ، بعد العشاء، وكلما زاد فهو أفضل.

فجَازَ الشرعُ أن يُصلِّي أحدكم العشاء ثم يعقبها بركعةِ وتر واحدة.. وهذا للتيسير وإنْ لم يكن هو النهج الأمثل الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته المكرمين، ونستخلص من هذا الجواز الحرص الشديد على أداء الوتر وقطع السبل عن تعمُّد تركه احتجاجًا بالتعب..

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الوِترَ، فأَوْتِرُوا يا أهلَ القُرآن»
وقوله: «الوِترُ حَق»

قال ابن تيمية رحمه الله:
‏"الوتر أوكد من سُنة الظهر والمغرب والعشاء، والوتر أفضل من جميع تطوعات النهار."

قال ابن القيم رحمه الله:

"الدنيا في الحقيقة لا تُذَمُّ، وإنما يُتوجه الذمُّ إلى فعل العبد فيها؛ فلَمَّا غلبتْ عليها الشهوات والحظوظ والغفلة والإعراض عن الله والدار الآخرة، فصار هذا هو الغالب على أهلها وما فيها، وهو الغالب على اسمها، صار لها اسم الذم عند الإطلاق..
وإلَّا، فهي مَبْنَى الآخرة ومزرعتُها، وفيها اكتسبتْ النفوسُ الإيمان، ومعرفةَ الله ومحبتَه وذكرَه ابتغاء مرضاته، وخيرُ عَيشٍ ناله أهل الجنة في الجنة، إنَّما كان بما زرعوه في الدنيا، وكفى بها مَدحًا وفضلًا!".

كنت أظن إن كلمة (طُوبىٰ) تعني تمنّي السعادة والخير والجزاء الطيب للغير وكده..

لكن في شرح الحديث أعلاه عرفت إن (طوبى) هي في الحقيقة شجرة في الجنّة، بل من أطيب أشجار الجنة، وتُطابِقُ الفردوس..

في حديث الرسول صلى اله عليه وسلم أنه جاءه رجل يسأل:

«يا رسولَ الله، ما طُوبَى؟
قال: شجرةٌ في الجنَّةِ مسيرةُ مِئةِ سَنةٍ، ثيابُ أهلِ الجنَّةِ تخرُجُ مِن أكمامِها.»

وفي شرح قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآب}:
قيل: طُوبَىٰ شجرةٌ أصلُهَا في قصرِ النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة، ثم تنقسم فروعها على منازل أهل الجنة، كما انتشر منه العلم والإيمان على جميع أهل الدنيا.

وإنْ مِن شَيٍ إلّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ
ومَا نُنَزِلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعلوم.

كل يوم أبذل جهدًا أخلاقيًّا هائلًا كي أُجنِّب الآخرين موقفي غير السعيد منهم في تعاملي معهم، كي أكبح رغبتي في تصحيحهم حتى لا يصطدموا بي بقصد أو بدون.
هذا لأنني تعلمت -بأثمان قاسية جدا دفعتها من أعصابي وعلاقاتي وقلبي- أن الوقّاف على أخطاء الآخرين لا يُعاشر، حتى لو كانت تلك الأخطاء أشواكًا ستَخِزُني أنا، أقول لنفسي: من يرد الورد يأخذه بشوكه، وليس في استطاعتنا على الدوام تقليم الآخرين من عيوبهم، ولا من الجميل أن نُنبِّههم طوال الوقت أن فيهم هذه العيوب وتلك وأننا نستثقلها.
أدركت أن الصبر على الناس لا يتعلق بالعابرين فقط، أو بالذين تربطنا بهم علاقات سطحية تُسهِّل علينا التغافل، بل أشق الصبر صبرُنا على أحبابنا، على عيوبهم التي كالشوك في ورد علاقتنا؛ لا يمكن أن نمسك الوردة لنشم أريجها الطيب دون أن ننجرح ونألم أحيانا.
تعلمت أن آخذ صديقي على عيبه، هذا هو الإنسان الذي أمامي؛ بما ينقصه وما يضايقني منه وما لا يُعجبني فيه، إن استطعت قبلتُه وإلا فلا، وإذا قبلته واستطاع أن يغير شيئا في نفسه من أجلي فلا أنساها له، وإذا لم يستطع أن يتغير رغم المحاولة فلا أنسى أن فيه من المحاسن ما جعلني أتغاضى عن نقصه سابقا، وما ينبغي أن يساعدني على التغاضي اليوم.
تعلمت أن بعض الجروح ليس سببها الطرف الآخر دائما، بل قد يكون سببها أحيانا نقطة ضعف عندي، أو طبيعة نفسية خلقني الله عليها تجعلني أستقبل الأفعال بشكل لم يقصده صاحبه، هذا هو ما يُطلق عليه التنافر والتآلُف؛ حيث ليست المشكلة في أيٍّ منا، ومع ذلك لا يصلح أحدنا ليكون قريبا من الآخر.
أصعب امتحان أخلاقي هو امتحان الإنصاف؛ أن أقول لك: لم آلَفْك ولن يكون بوسعي أن أدخلك حياتي أو أن أحبك، لكن فيك محاسن كيت وكيت، لقد ضايقتني كثيرا ولم أنسجم معك، لكنك قد تكون جميلا في علاقة أخرى مع شخص يؤكد أنك ألطف إنسان في العالم.

- شيماء هشام سعد.

اللهم أعنِّي أن أُحسِنَ كل أدواري في الحياة؛ فلا أبخس دورًا بجانب دور، ولا أهمِلُ واجبًا مقابل نفل، ولا أهلِكُ نفسي في ما لم تفترضه عليّ، وإنْ أردت لي شيئًا في هذه الدنيا ووضعتني على ثغرٍ، فاجعلني أكمل مَنْ يقوم به، وأحسن مَن لا يُستعاض بغيره فيه.

" واِعلَم يا أخي أنَّه لا يصل أحدٌ مُختَارًا؛ إنما يَصلُ المضطرون، وأنَّ مَنْ أشتَرطَ الرِفقَة فاتته الرِّحلَة، وأنَّهُ ليس مِثْلُ الله صَاحب. "