مدوّنة أروى أبا الخيل

Description
خذ ما صفا ودع ما كدر
(مقالة كل ثلاثاء)

تويتر:
https://twitter.com/t_elm2
قناة القراءة -للنساء-:
https://t.me/+womNgEZXDz00MzM0
Advertising
We recommend to visit

قناة احمد علي على تيليجرام ( شروحات تقنية ، تطبيقات ، ‏أفلام ومسلسلات ، خلفيات ، و المزيد )

Last updated 1 week ago

يرمز تيليجرام إلى الحريّة والخصوصيّة ويحوي العديد من المزايا سهلة الاستخدام.

Last updated 3 months, 2 weeks ago

- بوت الإعلانات: 🔚 @FEFBOT -

- هناك طرق يجب ان تسلكها بمفردك لا اصدقاء، لا عائلة، ولا حتى شريك، فقط انت.

My Tragedy Lies With Those Things That Happen in One Second And Remain

- @NNEEN // 🔚: للأعلانات المدفوعة -

Last updated 4 days, 5 hours ago

1 month, 2 weeks ago

(عشر فوائد من الشدائد)

بسم الله الرحمن الرحيم

قد كتب الله سبحانه على الناس جميعاً الكدَر وتنغيص العيش ما داموا في الدنيا، من أبيهم آدم إلى آخرهم، كما قال تعالى لآدم وزوجه قبل نزولهما إلى الدنيا: ﴿فلا يُخرجنّكما من الجنة فتشقى﴾.

غير أن الله سبحانه فضّل المؤمنين على الكافرين عند الشدائد بنعمٍ تنزل عليهم معها إذا هم صبروا عليها، فقال لهم: ﴿وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم﴾، وقال: ﴿فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً﴾.

ومن هذه النعم والفوائد عشرة أمور:
-الأول: امتحان العبد حتى يُقيم الحجة على نفسه، أيستحق دخول الجنة أم لا، كما قال تعالى: ﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يأتكم مثَل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضرّاء وزُلزِلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب﴾.

-والثاني: تكفير الذنوب، كما قال النبي ﷺ: «ما يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة».

-والثالث: رفع الدرجات، كما قال تعالى: ﴿إنما يُوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾، قال الأوزاعي رحمه الله: "ليس يوزن لهم ولا يُكال، إنما يُغرف لهم غرفاً".

-والرابع: تمحيص المؤمن من المنافق، كما قال تعالى: ﴿ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب﴾، وظهر هذا في أكثر غزوات النبي ﷺ.
وقال الإمام الشافعي:
•جزى الله الشـدائد كل خيـرٍ
وإن كانـت تُغصّـصني بريقـي
•وما شُـكري لها حمـداً ولكن
عرفتُ بها عدوّي من صديقي

-والخامس: تخليص قلب العبد من التعلق بغير الله، فإنه إذا اشتدت عليه المصيبة، وأُغلق عليه كل طريق، وانسدّ أمامه كل باب، علّق قلبه بالله وحده وأخلصه له، فلجأ إليه وتوكل عليه وحده دون سواه، وهذا من لطف الله به أن دفعه إليه دفعاً.

-والسادس: تقوية العبد وتربيته وتعويده على الصبر، فمن ابتُلي بمصيبة وصبر عليها هانت عليه كل المصائب التي دونها، وقد تعظُم عليه هذه المصائب لو لم يُصَب بالعظمى قبلها، كما هانت على الصحابة كل المصائب بعد موت النبي ﷺ، فقال حسان رضي الله عنه:
•وهل عدلت يوماً رزيّةُ هالكٍ
رزيّةَ يـومٍ مـات فيه محـمدُ؟

-والسابع: استجلاب الدعاء، فإن العبد قد يغفل عن دعاء ربه سنين طويلة، فإذا نزل به البلاء توجّه إلى الله بالدعاء، وتحرّى له فضائل الأوقات، وألحّ به وتتبع أسباب إجابته، وكان دعاؤه خالصاً وقلبه راجياً مستكيناً، وقد يؤخر الله عنه الإجابة ليستكثر من الدعاء فينال فضائله.

-والثامن: إمالة العبد إلى الاستقامة وإنقاذه من الغفلة، كما قال تعالى: ﴿ولقد أرسلنا إلى أممٍ من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضرّاء لعلهم يتضرعون﴾، وهذا من لطف الله بهم أن دفعهم إلى التضرع إليه، كما قال السعدي رحمه الله: "بالبأساء والضرّاء أي بالفقر والمرض والآفات والمصائب؛ رحمةً منا بهم لعلهم يتضرعون إلينا ويلجؤون عند الشدة إلينا".
وقال تعالى: ﴿ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليُذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون﴾، ومن لطفه بهم كذلك فوق ابتلائهم ليرجعوا إليه أن أذاقهم بعض ما عملوا لا كله لئلا يهلكوا.

-والتاسع: إخضاع المؤمن وإزالة ما في قلبه من كبر، فإن الدنيا إذا ملأت قلبه أورثته الكبر، فإذا دخل البلاء على قلبه حقّر الدنيا عنده حتى يستكين ويخضع.

-والعاشر: تنبيه المؤمن إلى عدم الركون إلى الدنيا، فهو إذا ابتُلي بما مال قلبه إليه وانشغل به تيقّظ واستحضر زوال داره وصرف عمله إلى دار البقاء واشتاق إليها وعلّق قلبه بها.

فنسأل الله أن يلطف بأهل الشدائد ويُثبتهم ويُعظم لهم الفضل كما أعظم عليهم المصيبة، وأن يصلي ويسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
٣ جمادى الأولى ١٤٤٦هـ
https://t.me/t_elm3

1 month, 3 weeks ago

**(تكنيات العرب بالعصا عن غيرها)

بسم الله الرحمن الرحيم**
مما عظّمته العرب وحفَلت به وعرفت قدره: العصا، فاستعانوا بها على كثيرٍ من مآربهم، وتزيّنوا بها في كثيرٍ من مواطنهم، وضربوا بها ما استطاعوا من أعاديهم.

وقال فيها الحسن البصري: "فيها ست خصال: سنةٌ للأنبياء، وزينةٌ للصلحاء، وسلاحٌ على الأعداء، وعونٌ للضعفاء، وغمّةٌ للمنافقين، وزيادةٌ في الطاعات".

وما ذكره العرب وعدّدوه من مآرِب العصا كثيرٌ مشتهرٌ ومجموعٌ في عدة مواطن، وأوصل فوائدَها عبدُ العزيز الحربي في كتابه (أم المآرب) إلى أكثر من ثمانين فائدة.
ولن تزال العصا في العرب بفوائدها إلى قيام الساعة، كما قال النبي ﷺ: «لا تقوم الساعة حتى يخرج رجلٌ من قَحطان يسوق الناس بعصاه».

ولما كان للعصا هذا القدر عند العرب صاروا يُكنّون بها عن غيرها، وهي عادتهم فيما ألِفوه واشتدت ملاصقته لهم، والذي وقفت عليه من تكنياتهم بها عشرة، وشرطي فيها أن تكون كُنيةً عن أمرٍ لا تعلّق له بالعصا بل بغيرها، إذ يرِد في كلامهم ما ظاهره الكنية وهو وصفٌ لنفس العصا أو جزءٍ منها:

-الكنية الأولى: قَرْع العصا، وهو وقوع الحادثة، فيقولون: ما قُرِعت عصاً بعصاً إلا حزن لها قومٌ وسُرّ آخرون، أي: ما حدثت حادثة إلا ساءت قوماً وسرت قوماً.

-والثانية: صلابة العصا، وهي الجلادة والقوة، قال ابن بري: "يُقال إنه لصلب العصا، أي صلب في نفسه وليس ثَمّ عصا"، وتُستعمل في الذم والمدح، فإذا اعتدلت الصلابة كانت مدحاً، وإذا خرجت عن اعتدالها كانت ذماً، كما قال الراجز:
صلب العصا بالضّرب قد دمّاها
تـــودُّ أن الله قـــد أفـــنــاهـــا
وقال آخر مادحاً:
نـشّـطهـا ذو لِـمّـةٍ لم تُغـسَّلِ
صلب العصا جافٍ عن التغزّلِ

-والثالثة: ضعْف العصا، وهو اللين، عكس الأول، ويُستعمل كذلك في المدح والذم، فإذا اعتدل وكان رِفقاً وإشفاقاً كان مدحاً، وإذا خرج عن اعتداله وكان عجزاً ووهناً كان ذماً، كما قال الأول:
وأنت بـذات السـدر من أم سـالـمٍ
ضعيفُ العصا مستضعفٌ متهضمُ
وقال الآخر مادحاً:
ضعيفُ العصا بادي العروقِ ترى له
عليـها إذا ما أمْحَـل النـاس أصبُـعاً
أي أثراً حسناً إذا افتقر الناس.

-والرابعة: شَقّ العصا، وهو الفُرقة، كما قال النبي ﷺ: «من أتاكم وأمرُكم جميعٌ على رجلٍ واحدٍ يُريد أن يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه».
وكنّوا عمن قُتل في هذه الفتنة التي تُفرّق الناس بـ(قتيل العصا)، فقالوا: إياك وقتيل العصا، أي إياك أن تكون القتيل في الفتنة التي تُفارق فيها الجماعة.

-والخامسة: إلقاء العصا، وهو الإقامة وترك السفر، كما قال مضرس الأسدي:
فألقت عصا التَّسيار عنها وخيّمت
بـأرجـاءِ عذبِ الماء بِيـضٍ مَحافِرُه
وقيل:
فألقت عصاها واستقرّت بها النوى
كـمـا قَـرّ عيـناً بالإيـاب المـسـافـرُ

-والسادسة: عبد العصا، وهو من سهُل انقياده لضعفه وذلّه، كما قال بشر بن أبي خازم:
عبـيدُ الـعـصـا لـم يـتّـقـوك بـذِمّـةٍ
سوى سيب سعدى، إن سيبك واسعُ

-والسابعة: جَنيب العصا، وهو المنقادُ لما كُلِّف، فالجنيب المجنوب، أي المنقاد، يقولون: أصبح فلانٌ جنيبَ العصا.

-والثامنة: قَشْر العصا، وهو إظهار ما في النفس، يقولون: أقشَرَ له العصا، أي كاشفه وأظهر له العداوة.

-والتاسعة: رأس العصا، وهو صغير الرأس، كما قال سويد بن الحارث في عمر بن هبيرة الفَزاري -وكان صغير الرأس-:
مَن مُبلغٍ رأسَ العـصا إنّ بيـنـنا
ضغائنَ لا تُنسى وإن قَدُم الدهرُ
وقال أبو العتاهية في رأس والبة ورؤوس قومه:
رؤوس عصيٍّ كُنّ من عود أَثلةٍ
لها قادحٌ يَفري، وآخـر مُخرب

-والعاشرة: عصا الدين، وهو السيف، كما قال الفرزدق في مدح هشام بن عبد الملك:
رأيـتُ بني مـروان جـلّـت سيـوفُـهم
عَشـاً كان في الأبصار تحت العمـائم
عصـا الدين والعُودَين والخاتمَ الذي
بـه الله يُـعـطـي مُـلـكـه كــل قـائـمِ
والعودان: العصا والمنبر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
٢٦ ربيع الآخر ١٤٤٦هـ.
https://t.me/t_elm3

2 months ago

(تفضيل العرب الموتَ في المعركة على الموتِ حتفَ الأنف)

بسم الله الرحمن الرحيم

مما خالفت به العربُ سائرَ الأمم عند المعارك والحروب: حبُّها للموت قتلاً وفخرُها به، وإباؤها عن الموت في الفراش وتسابُّها به.

فقال ابن عبد ربه في العقد الفريد: "كانوا يتمادحون بالموت قَعْصاً، ويتهاجَون بالموت على الفراش، ويقولون فيه: مات فلانٌ حتفَ أنفه".

والموت قَعْصاً أي: قتلاً من رميةٍ أو ضربة.
والموت حتفَ الأنف أي: من غير قتل، فجاءه حتفُه -وهو موتُه- من أنفِه، قال أبو أحمد العسكري: "إنما خص الأنف لأنه أراد أن روحه تخرج من أنفه بتتابع نفَسه، لأن الميت على فراشه من غير قتل يتنفس حتى ينقضي رمقه، فخص الأنف بذلك، لأن من جهته ينقضي الرمق، أو لأنهم كانوا يتخيلون أن المريض تخرج روحه من أنفه، وروح الجريح من جراحته".

وأول من سبك هذه العبارة النبي ﷺ، ثم صارت من أمثلة العرب، فروى عبد الله بن عتيك عن النبي ﷺ أنه قال: «من خرج من بيته مجاهداً في سبيل الله فخرَّ عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله، وإن لدغته دابةٌ فمات فقد وقع أجره على الله، ومن مات حتفَ أنفه فقد وقع أجره على الله، ومن مات قَعْصاً فقد استوجب الجنة».
ثم قال ابن عتيك في قوله «حتفَ أنفه»: "وإنها لَكلمةٌ ما سمعتها من أحدٍ من العرب أولَ من رسول الله ﷺ"، يعني قبله.

فتفاخَر العرب بالموت قَعْصاً وتمنّوه واستعذبوه واستحْلَوه، ونزّهوا أنفسهم عن الفرار عنه والموت في غيره، وهو معنى قولهم: "استقبال الموت خيرٌ من استدباره".

فقال زُهير في مدح قومه:
•وإن يُقتَـلوا فيُشـتفى بدمائـهم
وكانوا قديماً من مناياهمُ القتلُ

ومن المشهور نسبته إلى السّمَوأل قوله:
•وإنا لَقـومٌ لا نرى القـتلَ سُـبّـةً
إِذا مــا رأتـهُ عـامــرٌ وسَـلــولُ
•وما مات منا سيدٌ حتـفَ أنفِـهِ
ولا طُـلَّ منـا حيـثُ كان قتـيـلُ
•تسيل على حدّ الظّبات نفوسُنا
وليس على غير السّـيوف تسيلُ

وقال أبو تمام في رثاء محمد الطوسي:
•فتىً مات بينَ الضربِ والطعنِ مِيتةً
تقـوم مَقـامَ النصـرِ إن فاتـهُ النصـرُ
•وقد كان فَـوتُ المـوتِ سهـلاً فَـرَدّهُ
إليـه الحِفـاظُ المُـرُّ والخُـلُـقُ الوَعـرُ

وقالت امرأةٌ من بني عبد القيس في مدح قومها:
•أبَوا أن يفِـروا والقَـنا في نحـورهـم
ولم يبتغوا من خشية الموت سُلّماً
•ولـو أنّـهـم فــرُّوا لَـكــانــوا أعِــزّةً
ولكن رأوا صبراً على المـوت أكرمـا

وأما استعذابهم الموت في الوغى ولذّتهم به فمنه قول أبي تمام:
•يستعـذِبون منايـاهم كأنـهـمُ
‏لا يخرجون من الدنيا إذا قُتِلوا

وقال البحتري:
•تسرَّع حتى قال من شهِد الوغى
لـقـاءُ أعـادٍ، أم لـقـاءُ حـبـائـبِ؟

وقال كذلك:
•يمشون تحت ظبا السيوفِ إلى الوغا
مشيَ العِـطاش إلـى بـرودِ المـشـرَبِ

وقال الحارثة الغداني:
•وإنا لتستحـلي المنايا نفوسُنا
وتترك أخرى مُرّةً ما تـذوقُـها

ولمّا حضرت المنيةُ خالدَ بن الوليد رضي الله عنه وهو في فراشه بكى وقال: "لقد حضرتُ كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي شبرٌ إلا وفيه ضربةٌ بسيف أو طعنةٌ برمح أو رميةٌ بسهم، وها أنا أموت على فراشي حتفَ أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء".
ولعل الله قدّر له الموت على فراشه لمّا سماه النبي ﷺ سيفَ الله المسلول، فلا يُكسر سيف الله في المعركة، كما ذكر بعض العلماء.

ولما بلغ عبدَ الله بن الزبير مقتلُ أخيه مصعب رضي الله عنهما قال: "إن يُقتل فقد قُتل أخوه وأبوه وعمه، وإنا والله لا نموت حتفاً، ولكن قَعْصاً بأطراف الرماح وموتاً تحت ظلال السيوف".

ولما جاء الإسلام ألبس هذه القِتلة لُبسةً شريفة، وهي الشهادة في سبيل الله، وأثنى على أهلها وأثبت لهم الحياة والرزق وأوجب لهم الجنة، فبلغت شجاعة الصحابة رضي الله عنهم باجتماع هذين الأمرين مبلغاً عظيماً لم يُر مثله، وأحسنَ خالد بن الوليد رضي الله عنه في وصفهم بقوله في رسالة كتبها إلى ملوك فارس: "أسلِموا، وإلا فأدّوا الجزية، وإلا فقد جئتكم بقومٍ يحبون الموت كما تحبون الحياة".

فنسأل الله أن يُظهر في أمتنا الإقدام والشجاعة الذي تهابها به أعداؤها، وأن يصلي ويسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
١٩ ربيع الآخر ١٤٤٦هـ
https://t.me/t_elm3

4 months, 2 weeks ago

(أثر العيش والمكان في طبع الإنسان)

بسم الله الرحمن الرحيم

مِن أعظم ما يؤثر في طبع الإنسان وخُلقه وفكره وتصوره ولغته: عيشُه ومكانُ إقامته، حتى قيل: الإنسان ابن بيئته.

-فمن المُشاهَد من تأثير ذلك في الطبع أن سعة العيش ورخاءه يورث اللين، وضيق العيش وضنكه يورث القسوة، وأن سهولة المكان ورطوبته يورث الرفق، ووعورة المكان وقفره يورث الشدة، ومن أشهر ما يُضرب مثالاً لذلك قصة علي بن الجهم مع الخليفة العباسي المتوكل.

-ومن تأثير ذلك في الخُلق أن من كان عيشه بين أهلٍ كرماء شرفاء أخذ طبعهم، ومن كان بين أهلٍ بخلاء وضعاء أخذ طبعهم، وهو مستقر عند الناس جميعاً، كما استنكر قوم مريم عليها السلام مجيئها بولدٍ دون نكاح وقالوا: ﴿يا أخت هارون ما كان أبوكِ امرأ سَوءٍ وما كانت أمكِ بغيّاً﴾، فكان هذا -لعظمته بمخالفته أثر عيشها عليها- مع تكلم عيسى في المهد معجزةً دالةً على صدقه.
وهذا التأثير مُطّردٌ في كل خلُق حتى يصل إلى الدين، كما قال النبي ﷺ: «كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه».
ومن المُستنبط أن سعة المكان تورث العطاء والإقدام، وضيقه يورث الإمساك والإحجام، كما أورثت الصحراءُ العربَ الكرم والشجاعة.

-ومن تأثير ذلك في الفكر أن من كان عيشه غنىً استحسن شراء الزينة ونحوها بثمنٍ غالٍ، ومن كان عيشه فقراً استقبحه وسفّه أصحابه.
ومن كان مُلابِساً أمراً أحسن تصوره والحكم فيه، ومن بَعُد عنه ضعُف تصوره فبالغ فيه أو هوّنه.
ومن غلب على أهل بلده الشدة استقبح أفعالاً لا يستقبحها من غلب على أهل بلده اللين، كما قال عمر رضي الله عنه: "كنا معشرَ قريشٍ نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا قومٌ تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصخبتُ على امرأتي فراجعتني، فأنكرتُ أن تراجعني".

-ومن تأثير ذلك في التصور أن الشمس عند العربي أبلغ مثال على القسوة لشدة حرّها، وهي عند الغربي أبلغ مثال على الحنوّ لدفئها، والمطر عند العربي أبلغ مثال على الفرح لإغاثته به، وهو عند الغربي أبلغ مثال على الحزن لتأذيه منه.
ومنه أن البدوي ينسب نفسه إلى قبيلته لتنقله، فهو أقوى تعلقاً بها، والمدني ينسب نفسه إلى مدينته لاستقراره، فهو أقوى تعلقاً بها.

-ومن تأثير ذلك في اللغة أن من لان عيشه وسهُل مكانه رقت لغته حتى يُميل أكثر حروفها، ومن اشتد عيشه وغلُظ مكانه خشنت لغته حتى يُفخم أكثر حروفها، ويدخل تأثير ذلك في مفردات اللغة، فمن قرأ معجم لغةٍ تصوّر بمفرداتها عيش أهلها وطبيعة مكانهم.

فمن فهم ذلك حرص على العيش الحسن والمكان الحسن؛ لئلا يتأثر بالقبيح، ولذلك نهى النبي ﷺ المؤمن عن أن يبيت بين ظهراني المشركين.

ومن فهمه كذلك لم يحتد ويغلظ على المخالف؛ لعلمه بشدة تأثير العيش والمكان على الطبع والخلق والتصور والفكر واللغة، فكما أنه باجتماع كل ذلك يرى الحق معه، فكذلك مخالفه يرى باجتماع كل ذلك فيه أن الحق معه.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
٢ صفر ١٤٤٦هـ.
https://t.me/t_elm3

4 months, 3 weeks ago

(الخلاف في نقط الياء آخر الكلمة)

بسم الله الرحمن الرحيم

معلومٌ أن حروف العربية كانت خاليةً عن النقط، ثم أدخلها أبو الأسود الدؤلي ببراعةٍ لضبط الحروف وتمييزها للعجم خاصة.

ودخول النقط فيها كان بالتدريج، فبدأ بالحروف الملتبسة كالباء والتاء والثاء، والجيم والحاء والخاء، وغيرها، وكانت بعض الحروف تُنقط حال وصلها بغيرها لالتباسها، ولا تُنقط حال تطرفها لتميّزها برسمها، كالفاء والقاف والنون والياء، فالفاء والقاف إذا توسطت الكلمة التبست دون نقط، وإذا تطرفت ظهر الفرق بينها، وكذلك النون والياء إذا توسطت التبست، وإذا تطرفت ظهرت، كما قال ابن درستويه في كتاب الكُتّاب: "ومنها [أي الحروف] ما استُغني عن نَقطه في حال انفراده؛ لمخالفته غيره في الصورة عند انفراده، وأُلزِم النقط عند اتصال ما بعده؛ لاشتباهه في هذه الحالة بغيره، وذلك أربعة أحرف: الفاء والقاف والنون والياء".

ثم دخل النقط على هذه الحروف حال تطرفها كذلك، عدا الياء، فلم يزل خلاف مدارس الخط والكتابة فيها إلى الآن، فالمدرسة المصرية ترسمها حال تطرفها دون نقط، كياء المتكلم تُرسم عندهم هكذا (كتابِى)، وحرف الجر هكذا (فِى)، وعلى ذلك مطابعهم الآن، وعليه رسم المصحف.
[انظر الصور المرفقة]

فإذا التبست الياء بالألف المقصورة التي على صورة ياء فرّقوا بينهما إما برسم الكسرة تحت الحرف قبل الياء، نحو (علِى)، ورسم الفتحة فوق الحرف قبل الألف المقصورة، نحو (علَى)، أو رسم ألف خنجرية قبل الألف المقصورة، نحو (علىٰ).

وهذا الذي كان مستقراً عند متقدمِي العربية قبل انتشار نقطها، كما قال الخليل الفراهيدي: "الياء إذا وُصلت نُقطت تحتها اثنتين؛ لئلا تلتبس بما مضى، فإذا فُصلت لم تُنقط".

أما عامة المدارس غير المصرية -وأشهرها مدرسة الشام- فاستحسنت نقط الياء المتطرفة؛ تفريقاً بينها وبين الألف المقصورة التي على صورة ياء، واشتهر ذلك حتى صار الغالب، وصار ترك نقطها مستنكراً أو مستغرباً عند من لم يعلم سبق الخلاف وآراء المدارس وما عندهم من قوة رأي وحجج، كهذه المقالة التي كتبها الدكتور المصري محمد الجوادي في الانتصار لطريقتهم في ترك نقط الياء المتطرفة:
https://www.aljazeera.net/blogs/2019/6/26/عبقرية-الطريقة-المصرية-في-كتابة-الياء

فمن نقطها تبع مذهباً معتبراً، ومن تركه تبع مذهباً قوياً كذلك، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
٢٤ المحرم ١٤٤٦هـ.
https://t.me/t_elm3

5 months ago

**(الصلاح يتعدى نفعه إلى غير صاحبه)

بسم الله الرحمن الرحيم**

من عظيم تعظيم الله سبحانه للطاعة والصلاح، ومحبّته للصالح من عباده وإكرامه له: أنه يُكرِم من حوله ومن جاوره ومن رافقه ومن كان من بنيه؛ إكراماً له، فهو كما قال النبي ﷺ عنه كحامل المسك، إن لم تبتع منه فلا بدّ أن تجد منه ريحاً طيّبة.

-ومن صور ذلك أن المرء إذا كان صاحباً للصالح شفع له، كما في قوله تعالى: ﴿فما لنا من شافعين*ولا صديقٍ حميم﴾، قال قتادة: "يعلمون والله أنّ الصديق إذا كان صالحاً نفع، وأنّ الحميم إذا كان صالحاً شفع".
وقال الحسن البصري: "استكثِروا من الأصحاب الصالحين في الدنيا فإنهم ينفعون يوم القيامة"، قالوا: كيف؟ قال: "إنّ لهم شفاعة".
بل وأشدّ من ذلك أن صاحب الصالح لو كان كلباً شملته بركته، كما قال ابن كثير عن كلب أصحاب الكهف: "هذا فائدة صحبة الأخيار، فإنه صار لهذا الكلب ذكرٌ وخبرٌ وشأن".

-وإذا كان المرء جاراً للصالح أو من أهله حُفِظ وهو في داره، كما قال ابن المنكدر: "إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وعترته وعشيرته والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم".

-وإذا كان المرء ولداً للصالح حُفِظت نفسه وماله ورُفِعت درجته، كما قال سعيد بن المسيّب لابنه: "لأزيدنّ في صلاتي من أجلك رجاء أن أُحفَظ فيك"، وقال: "إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي".
وفي قصّة الخضِر مع موسى عليه السلام حفظ الله سبحانه مال اليتيمين اللذَين لم يبلغا أشدّهما بإقامة الجدار الذي فوقه لئلّا ينقضّ فيظهر كنزُهُما، ثم قال: ﴿وكان أبوهما صالحاً﴾، قال ابن عبّاس: "حُفِظا بصلاح أبيهما ولم يُذكَر لهما صلاح".
وقال تعالى: ﴿والذين آمنوا واتّبعتهم ذريّتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريّتهم﴾، إكراماً للصالح حتى تقرّ عينُه بهم في الجنّة.

-بل وأعجب من ذلك أن المرء وإن كان مارّاً بالصالحين لم يقصد مجالستهم يُغفَر له، كما في قول الله سبحانه للملائكة لمّا مرّوا بقوم يذكرون الله: «إنّي أُشهِدكم أني قد غفرتُ لهم»، فيقولون: إنّ فيهم فلاناً الخطّاء لم يُرِدهم وإنما جاء لحاجة، فيقول سبحانه: «هم القوم لا يشقى بهم جليس».

فنسأل الله ألا يحرمنا بركة الصالحين من عباده، ويجعلنا منهم، وأن يصلي ويسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
أصل المقالة مكتوبٌ عندي قبل حوالي ثلاث سنوات يوم ١٤ ربيع الأول ١٤٤٣هـ، ثم حررته ونشرته اليوم ١٧ المحرم ١٤٤٦هـ.
https://t.me/t_elm3

7 months ago

**(عشرة معانٍ للتبسم من فعل النبي ﷺ)

بسم الله الرحمن الرحيم**
مِن أوصاف النبي ﷺ طلاقةُ وجهه وكثرةُ تبسّمه، فروى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن الحارث أنه قال: "ما رأيتُ أحداً أكثر تبسّماً من رسول الله ﷺ"، وروى كذلك عن جابر بن سمُرة أنه شهد النبي ﷺ أكثر من مئة مرة في المسجد وأصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية، فربما تبسّم معهم، فكان جلّ ضحكه التبسّم كما رواه عنه أصحابه.

وفي حديثٍ عائليٍّ لوالدي عن بشاشة الوجه والتبسّم أخذتُ أستحضر ما أعرفه من مواضعَ تبسَّم فيها النبي ﷺ لأشارك بها، فتذكرتُ حديث كعب بن مالك وفيه: "فلما سلمتُ عليه تبسَّمَ تبسُّم المُغضَب"، فخطر لي أن أجمع معاني بسماته ﷺ، وتتبعتُها حتى بلغتُ بها عشرة معانٍ:

-الأول: التودد والتلطف، كما في حديث جرير بن عبد الله عند البخاري ومسلم: "ما حجبني النبي ﷺ منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسّم في وجهي".
وكما في حديث أبي هريرة عند البخاري لما جاع حتى شد الحجر على بطنه من الجوع، قال: "ثم مرّ بي أبو القاسم ﷺ فتبسّم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي"، وفي آخر الحديث أمره على جوعه أن يسقي أهل الصُفَّة كلهم من قدح لبن واحد وهو ينظر، قال: "حتى انتهيتُ إلى النبي ﷺ وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليّ فتبسّم فقال: «يا أبا هِرّ»، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «بقيتُ أنا وأنت»، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: «اقعد فاشرب»، فقعدت فشربت" الحديث.

-والمعنى الثاني: الطمأنينة والفرح، كما في حديث أنس بن مالك عند البخاري ومسلم أن النبي ﷺ لما أمر أبا بكر أن يصلي بالناس أيام مرضه كشف ستر حجرته وهم في صلاة الفجر، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسّم يضحك كأن وجهه ورقة مصحف.

-والمعنى الثالث: الاغتباط، كما في حديث أنس بن مالك عند مسلم أن النبي ﷺ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسّماً، فقالوا له: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: «أُنزِلت علي آنفاً سورة»، فقرأ: ﴿إنا أعطيناك الكوثر﴾ السورة.

-والمعنى الرابع: التعجب، كما في حديث أنس بن مالك عند الضياء المقدسي في المختارة أن رسول الله ﷺ تبسم ثم قال: «عجبتُ للمؤمن، إن الله لا يقضي له قضاءً إلا كان خيراً له».

-والمعنى الخامس: الإعجاب، كما في حديث عائشة الصديقة عند مسلم أن زينب استأذنت على رسول الله ﷺ وهي عنده وقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، ثم وقعَت في عائشة واستطالت عليها ورسول الله ساكت، فلما علمت عائشة أن رسول الله لا يكره أن تنتصر ردت عليها حتى أسكتتها، فتبسم رسول الله ﷺ وقال: «إنها ابنة أبي بكر».

-والمعنى السادس: الشماتة بالعدو، كما في حديث عباس السلمي عند ابن ماجه والبيهقي أن النبي ﷺ دعا لأمته عشية عرفة فاستُجيب له فيهم عدا الظالمين، ثم أعاد الدعاء في مزدلفة فاستُجيب له فيهم جميعاً، فتبسّم ﷺ، فقال له أبو بكر وعمر: والله لقد ضحكت في ساعة ما كنت تضحك فيها فما أضحكك؟ قال: «إن عدو الله إبليس لما علم أن الله عز وجل قد استجاب دعائي وغفر لأمتي أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه ويدعو بالويل والثبور، فأضحكني ما رأيتُ من جزعه».

-والمعنى السابع: الغضب، كما في حديث كعب بن مالك عند البخاري ومسلم أنه لما تخلف عن غزوة تبوك حتى رجع المسلمون ذهب إلى رسول الله ﷺ في المسجد، قال: "فلما سلمتُ عليه تبسَّمَ تبسُّم المُغضَب".

-والمعنى الثامن: الحِلم، كما في حديث أنس بن مالك عند البخاري ومسلم أنه كان يمشي مع النبي ﷺ وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبةً شديدة وقال له: يا محمد، أعطنا من مال الله الذي عندك، قال أنس: "نظرتُ إلى صفحة عاتق النبي ﷺ قد أثّرت به حاشية الرداء من شدة جذبته"، فالتفت إليه النبي ﷺ فضحك ثم أمر له بالعطاء، وعند ابن حبان: فالتفت إليه وتبسّم.

-والمعنى التاسع: المراعاة والعذر، كما في حديث عمرو بن عوف في البخاري والمسور بن مخرمة في مسلم أن الأنصار سمعت أن أبا عبيدة قدم بمال من البحرين، فوافَوا مع رسول الله ﷺ صلاة الصبح، فلما انصرف تعرّضوا له، فلما رآهم تبسم وقال: «لعلكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشي؟».

-والمعنى العاشر: الاستطراف، كما في حديث عمر بن الخطاب عند البخاري ومسلم أنه دخل على النبي ﷺ لما هجر نساءه وقال له بعد أن سلم عليه يريد التلطف معه: "لو رأيتني وكنا معشرَ قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم" ثم ذكر ما وقع بينه وبين امرأته وما أخبرته به من فعل نساء النبي ﷺ، قال: "فتبسم النبي ﷺ، فقلت: لو رأيتني ودخلتُ على حفصة فقلت: لا يغرنّك أن كانت جارتك هي أوضأ منك وأحب إلى النبي ﷺ، فتبسّم أخرى".

فنسأل الله أن يرزقنا حسن فهم سيرة نبيه والتخلق بأخلاقه، وأن يصلي ويسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
١٣ ذو القعدة ١٤٤٥هـ.
https://t.me/t_elm3

7 months, 1 week ago

(وجوب الطمأنينة بنصرة الدين)

بسم الله الرحمن الرحيم

لا شك أن كل مؤمنٍ يحزن لضعفِ أمته وتفرقِ أهلها وتمكنِ أعدائها منها وتسلّطِهم عليها واستباحتِهم دماءَ المسلمين وبلادَهم ومقدساتِهم ومكرِهم وكيدِهم الظاهرِ والباطن.
غير أن المؤمن يجب عليه مع ذلك أن يطمئن بنصرةِ الله دينَه وإعلائِه كلمتَه، تصديقاً لوعده سبحانه في مثل قوله: ﴿وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين﴾، وقوله: ﴿وإنّ جندَنا لَهُم الغالبون﴾.

فإنّ الشك في ذلك شكٌ في وعد الله وقدرته، وظنٌّ بأن قوة الأعداء وعُدتهم وعَتادهم وكيدهم وتكالبهم مُعجِزٌ الله، تعالى عن ذلك، وهو سوء ظنٍ ظاهرٍ به سبحانه، كما قال ابن القيم: "من ظن أنه سبحانه يُديل الباطل على الحق إدالةً مستقرةً يضمحل معها الحق…فذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار".

وقد نهى الله سبحانه عن أثر هذا الظن -المتضمن النهي عنه-، فقال: ﴿ولا تهِنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلَون﴾، لأن الهوان والحزن يُضعِفان الإنسان ويُخذّلانه، والثقة والفأل يُقوّيانه ويُنشّطانه، فلا أشد على أعداء الأمة من ثباتها وثقتها بربها وقوة نفسها وقت أزماتها، ولا أحب إليهم من حزنها وهوانها وإسلامها نفسها لضعفها.
ولذا شدد النبي ﷺ النهي عن ذلك في قوله: «إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلَكُهم»، وفي لفظ: «فهو أهلَكَهم».

وقد مرّ بالإسلام ما هو أشد وأعظم مما نحن فيه، وكاد به الأعداء من المكايد ما هو أخبث وأجرم، حتى كاد الإسلام يزول معها ويذهب أهلُه، ولو نظر ناظرٌ في بعضها لفزع أشد من فزعه الآن، ولَحمد الله أن ثبّت هذا الدين حتى بلَغه وصار من أهله.

فأعظم فاجعةٍ بعد عهد النبوة وأشدّها موتُ النبي ﷺ وانقطاع الوحي، حتى أذهلت عقول الصحابة وهم من هم في إيمانهم وثباتهم، وارتدت مع موته ﷺ جزيرة العرب وماجت بقبائلها، وخشي الصحابة ذهاب الإسلام وذهابهم، حتى ثبّت الله دينه بأبي بكر رضي الله عنه وثبت الإسلام إلى اليوم.

وفي القرن السابع كانت فاجعة التتار الذين اجتاحوا بلاد المسلمين وملكوا سائرها في الشرق وقتلوا كل من مروا به وحرقوا ونهبوا، حتى لو جاز للمسلمين من بعد الصحابة أن يجزعوا لفاجعة ويظنوا معها زوال الإسلام لكانت فاجعة التتار هذه، ووصف شناعتها معاصرُها ابن الأثير فقال: "هذا فصلٌ يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الليالي والأيام عن مثلِها، عمّت الخلائقَ وخَصَّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالمَ منذ خلق الله آدمَ وإلى الآن لم يُبتَلوا بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يدانيها…ولعلَّ الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقَرِضَ العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجَّال فإنه يُبقي على من اتَّبَعه ويُهلك من خالفه، وهؤلاء لم يُبقُوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال وشَقُّوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنَّة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" إلى آخر ما ذكره من وصفها وخبرها، ثم عاد الإسلام جديداً عزيزاً، ولم يبقَ للتَّتَر أي أثر.

فإن الإسلام ثابتٌ ومنصور، وإذا ضعُف فلا بد أن يقوى، وإذا خفت فلا بد أن يظهر، فسرعة تقلب الدهر عجيبة، وأخبر النبي ﷺ أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة عام من يجدد لها دينها، وتجديدها دليلٌ على ضعفها ويأس الناس منها قبل ذلك، فتعود لجِدّتها برجلٍ واحد.

ومن نعمة الله على هذه الأمة أن جعل فيها أبدالاً، فإذا مات عالِمٌ وُلد غيره، وإذا انتكس عابدٌ تنسّك غيره، وإذا أُخِذ مجاهدٌ ظهر غيره، فلا يخلو فيها زمانٌ من أقوام يحملون الدين الحق وينقلونه ولو تخفّياً، حتى يُظهرهم الله.

ففي أيام المعتزلة لما أظهروا عقيدتهم ورفعوها ونشروها وآذوا من يخالفها حتى حرّفوا القرآن على كسوة الكعبة وكتبوا: "ليس كمثله شيء وهو اللطيف الخبير"، تواصى أهل المغرب على أن يُثبتوا عقيدة أهل السنة تخفّياً ولو أن يكتبوها على القبور، فبقيت القبور إلى اليوم مُثبِتةً العقيدة، وفيها: "أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن القرآن كلام الله وليس بمخلوق، وأن الله يُرى يوم القيامة".

وفي العصر الحديث لما احتلت فرنسا الجزائر ومنعت المسلمين عن دينهم وصلاتهم وقرآنهم ولغتهم، اجتمع جماعة منهم وحفروا مسجداً تحت الأرض في صحراء الجزائر واجتمعوا فيه للصلاة والقرآن والتعليم، حتى تحررت البلاد وبقي الدين فيها ثابتاً تحت الأرض [انظر المقطع المرفق].

وما أحسن ما وصف به ذلك ابنُ القيم في نونيته، فقال:
والحقُّ منصورٌ ومُمتحَنٌ فلا
تعجب فهذي سنة الرحمنِ
فاجتمع فيه أمران: النصر والامتحان، فمن أساء الظن بالأول وجزع من الثاني باء بالخسران، وأسلم نفسه للخذلان، والله المستعان.

فنسأل الله أن يُبلّغنا ويُقر أعيننا برفعة دينه وعلوه ونصرته وظهوره على أعدائه، وأن يصلي ويسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
٦ ذو القعدة ١٤٤٥هـ.
https://t.me/t_elm3

7 months, 2 weeks ago

(الانشغال بمسائل العلم وقت أزمات الأمة)

بسم الله الرحمن الرحيم

لم تزل أمة نبيّنا محمد ﷺ من البعثة إلى اليوم تمر بكُرب وأزمات عظيمة، ابتلاءً من الله لها، ولم يزل علماؤها ثابتين مصلحين مبلّغين علمَهم من بعدهم، وإن عظُمت على أمتهم الكربة والشدة، لم تنخرم طبقة منهم عن ذلك.

لكن زعم عدد من الناس أن انشغال العلماء وطلبة العلم وغيرهم بالدرس والكتابة والتعليم والتأليف وقت أزمات الأمة قبيحٌ بهم، ودالٌّ على غفلتهم وإعراضهم عن حال أمتهم وتخلّيهم عنها، وأن الواجب عليهم ألا يفتؤوا عن ذكر حالها والتذكير بمصابها.

وأنا أعلم أن الحماسة والعاطفة أخّاذة، لكن يجب النظر بعين الحكمة في هذا، فإنّ كل إنسان مكلفٌ بأمانةٍ يحملها، وواجبُه ما قدر عليه، فمن قدر على رفع الظلم عن الأمة بيده فعل، وكان مذموماً إذا لم يفعل، ومن قدر بلسانه فعل، وكان مذموماً إذا لم يفعل.
ومن لم يقدر كفاه الاهتمام لأمرها والدعاء لها، فلا أعظم واللهِ من الدعاء، وكثرة دعاء المرء خيرٌ له من كثرة كلامه، فالله أعلم بما يلتبس على الناس وبما يقع من فتن، وأعلم بطرق حلها ورفعها، مما لو أكثروا فيه الكلام بقصور علمهم لكثُر سقطهم وخطؤهم واختلافهم.

ولا يلزم من هذا الاهتمام والدعاء استغراقُ الوقت في متابعة تفاصيل كل ما يحدث ويقع، والصوم عن الكلام والكتابة إلا عنه، وترك ما كان عليه المرء من طلب علم أو تعليم وغيرهما.

ولا يلزم من التعلم والتعليم والكتابة والتأليف عدم الاهتمام لحال المسلمين والحزن لمصابهم، بل قد يكون حزن هذا أشد، واهتمامه أعظم، وخوفه على أمته أكبر، فإن ما ينشغل به من علمٍ هو دينٌ وقوة، وليس من الحكمة إذا ضعُف جزء من الأمة أن يضعُف معه باقيها، بل يقوى لتقوى، ويثبُت لتبقى، وسمعنا بكثير من العلماء لم يقطعوا درسهم مدة ثلاثين سنة أو أكثر، فالنصرة المطلوبة نصرة الدين، والمنقطع عما كان عليه من علم وتأليف زعماً أن ذاك لأجل مصاب إخوانه لا هو نفعهم بانقطاعه ولا نفع دينه ونفسه وأمته.

فإنه لا أحَبّ لأعداء الدين من انقضاء شباب الأمة في الانشغال بالوقائع والأحداث والتعليق عليها وكثرة الكلام فيها، وترك ما جاء به الدين من علم وفقه.
فالمرء في شبابه وقوته وفراغه وصفاء ذهنه أقبَلُ للعلم وأحفَظُ له، والدين منه أمكنُ والصلاح إليه أسرع، فيحسُن به الانكباب على ما ينفعه قبل أن يزول عنه كل ذلك، وألا يحقر من ذلك أياماً، فالشباب سريع المضيّ، كما قال الإمام أحمد: "ما شبّهتُ الشباب إلا بشيءٍ كان في كمّي فسقط"، وأشد ما يندم عليه الشيخ الكبير تضييعه شبابه فيما لا يبقى له.

وليس الوقت وحده ما يُحافَظ عليه، بل مثله الفِكر، فإنه قد يُشغله قراءة سطر، أو نظر إلى صورة، أو سماع كلمة، فيضيع يومه كله لانشغال باله.
قال البشير الإبراهيمي في مجموع آثاره: "لا تقطعوا الفاضل من أوقاتكم في ذرع الأزقة إلا بمقدار ما تستعيدون به النشاط البدني…ولا في قراءة الجرائد إلا بقدر ما تطّلعون به على الحوادث الكبرى وتصلون به مجاري التاريخ، خذوا من كل ذلك بمقدار، ووفروا الوقت كله للدرس النافع والمطالعة المثمرة".

فالحكمة الموازنة بين الاهتمام لحال الأمة والدعاء لها، وبين حفظ الوقت في تعلم العلم وتعليمه، فعدم الموازنة فيهما يؤدي بالناس إلى فريقين:
-إلى ضعيف علم؛ لكثرة انشغال ذهنه بالوقائع وتفرّق لبّه بينها، فيتكلم بما يقوده إليه حماسه، لا بما يضبطه له علمه.
-وإلى متمكنٍ من المسائل جاهلٍ بالواقع؛ لعزله نفسَه عن أحوال أمته، فتَضعُف نصيحته لها؛ لجهله بحالها وحال أعدائها.

فنسأل الله أن يُصلح حال أمتنا، وأن يصلي ويسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
٢٨ شوال ١٤٤٥هـ.
https://t.me/t_elm3

7 months, 3 weeks ago

(عشرة مواضع يُكره فيها استقبال القبلة)

بسم الله الرحمن الرحيم

كما شرع الله سبحانه لعباده استقبال القبلة في مواضع (انظر المقالة السابقة)، كره لهم استقبالها في مواضع، إما كراهة تحريم أو تنزيه أو لكونها خلاف الأَولى، وتتبعتُ هذه المواضع فجمعت منها عشرة:

-الأول: عند قضاء الحاجة، وهو من باب التحريم، روى البخاري ومسلم عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرّقوا أو غرّبوا».

-والثاني: عند الاستنجاء، وهو من باب الكراهة، قال البهوتي في كتابه الروض المربع بعد ذكر تحريم استقبال القبة حال قضاء الحاجة: "ويُكره استقبالُها حالَ الاستنجاء"، وقال مرعي الكرمي في كتابه دليل الطالب: "يُكره استقبال القبلة واستدبارها في الاستنجاء".

-والثالث: عند كشف العورة، وهو من باب الكراهة، قال الطحاوي في مختصره: "يُكره استقبال القبلة بالفرج في الخلاء في المنازل والصحاري جميعاً"، وقال العراقي: "الجهات الأربع قد خُص منها جهة القبلة بالتشريف، فالعدل أن يستقبل في الذكر والعبادة والوضوء، وأن ينحرف عنها حال قضاء الحاجة وكشف العورة؛ إظهاراً لفضل ما ظهر فضله".

-والرابع: النخامة والبصاق في الصلاة، وهو من باب التحريم، روى البخاري ومسلم عن النبي ﷺ أنه قال: «إن المؤمن إذا كان في الصلاة فإنما يُناجي ربه، فلا يبزقنّ بين يديه ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه»، وفي رواية: إذا تنخّم أحدكم فلا يتنخّمنّ قبل وجهه ولا عن يمينه…».

-والخامس: الخطيب إذا خطب بالناس، فالسنة أن يستدبر القبلة ويستقبل الناس، وأوصلها بعض الفقهاء إلى الوجوب، قال ابن القيم في كتابه زاد المعاد: "كان وجهه ﷺ قِبَلَهم في وقت الخطبة".

-والسادس: الإمام إذا انصرف من الصلاة، فالسنة أن يستدبر القبلة ويستقبل المأمومين بوجهه، روى البخاري عن سمرة بن جندب أنه قال: "كان النبي ﷺ إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه"، وقال البهوتي في كتابه كشاف القناع: "يُكره للإمام استقبال القبلة، بل يستقبل الإمام المأمومين، لما تقدم أنه ينحرف إليهم إذا سلّم".

-والسابع: المؤذن عند قوله (حي على الصلاة، حي على الفلاح)، فالمستحب أن يلتفت عن يمينه ويساره بوجهه دون قدميه، قال ابن قدامة في كتابه المغني: "يستحب أن يدير وجهه على يمينه، إذا قال: حي على الصلاة، وعلى يساره إذا قال: حي على الفلاح، ولا يزيل قدميه عن القبلة في التفاته"، وجاء في الموسوعة الفقهية: "من مستحبات الأذان والإقامة عند المذاهب استقبال القبلة، غير أنهم استثنوا من ذلك الالتفات عند الحيعلتين: حي على الصلاة، حي على الفلاح".

-والثامن: عند الركوع والسجود بوجهه، قال ابن قدامة في كتابه المغني: "استقبال القبلة من الصحيح لا يكون في حال الركوع بوجهه ولا في حال السجود، إنما يكون إلى الأرض".

-والتاسع: عند التسليم من الصلاة بوجهه، روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: "كنت أرى رسول الله ﷺ يسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خدّه".

-والعاشر: عند رمي الجمرة الكبرى، فالسنة أن يجعل القبلة عن يساره، روى البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن يزيد أن حج مع ابن مسعود رضي الله عنه فرآه يرمي الجمرة الكبرى بسبع حصيات، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ثم قال: "هذا مقام الذي أُنزلت عليه سورة البقرة".

فنسأل الله يُفقّهنا في دينه، وأن يصلي ويسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أروى أبا الخيل
٢١ شوال ١٤٤٥هـ.
https://t.me/t_elm3

We recommend to visit

قناة احمد علي على تيليجرام ( شروحات تقنية ، تطبيقات ، ‏أفلام ومسلسلات ، خلفيات ، و المزيد )

Last updated 1 week ago

يرمز تيليجرام إلى الحريّة والخصوصيّة ويحوي العديد من المزايا سهلة الاستخدام.

Last updated 3 months, 2 weeks ago

- بوت الإعلانات: 🔚 @FEFBOT -

- هناك طرق يجب ان تسلكها بمفردك لا اصدقاء، لا عائلة، ولا حتى شريك، فقط انت.

My Tragedy Lies With Those Things That Happen in One Second And Remain

- @NNEEN // 🔚: للأعلانات المدفوعة -

Last updated 4 days, 5 hours ago