لِمَن أكتُب؟ لم أُحاوِل قطُّ أن أعرفَ لِمَن أكتُب؟ ولِمَ أكتُب؟ ولكني أُحِسُّ الآن من سِرِّ قلبي أني إنما كنتُ أكتُب، ولا أزالُ أكتُبُ لإنسانٍ من الناسِ لا أدري مَن هو، ولا أين هو: أهو حَيٌّ فيَسمعُني، أم جنينٌ لم يُولَد بعدُ سوف يُقَدَّرُ له أن يَقرَأَني؟

[فِيمَ أكتُب؟ || جمهرة المقالات]

‏ فِيمَ أكتُب؟ فِيمَ العناءُ والنَّصَب؟ علامَ أُزهِقُ أيَّامي في باطلٍ لا يَنقشِع؟! إنَّ بيني وبين الأسماعِ والأبصارِ والقلوبِ حِجابًا صاخبًا من غمامِ الدجاجِلة، وهَماهمِ الأفَّاكين، وثُغاءِ أهلِ الغِش، وضغاءِ أخدانِ النِّفاق، ويذهبُ قَولي باطلًا ويَضيعُ صوتي مُختنِقًا، ولَم أجْنِ عندئذٍ من حياتي إلا شقاءً.

[فِيمَ أكتُب؟ || جمهرة المقالات]

من حيثُ أتلفَّتُ أرى وجوهًا تَكذِب، ووجوهًا مَكذوبًا عليها. وأسمعُ أصواتًا تَخدع، وآذانًا مَخدوعةً بما تسمع. وأقرأُ كلامًا غُمِسَ في النفاقِ وفي التغريرِ غَمسًا.

[فِيمَ أكتُب؟ || جمهرة المقالات]

‏لستُ قانطًا ولا مُقنِطًا، كما يتوهَّمُ مَن يُحِبُّ أن يتوهَّم، ولكني أرى بلاءً نازِلًا بنا، ونحن نخوضُه كأنه رحمةٌ مُهداةٌ، وبِئسَ ما نفعل؟

[فِيمَ أكتُب؟ || جمهرة المقالات]

والجَمرةُ المُوقدَةُ أبردُ مَسًّا من سَخطةِ امرِئٍ على نفسِه!

[فِيمَ أكتُب؟ || جمهرة المقالات]

وما أظُنُّ أحدًا يَجهلُ ما كان من أمرِ البريطانيين يومَ دخلوا مِصرَ فمَزَّقوا مدارسَها، وعملوا عملَ الحريصِ على نَزْعِ كُلِّ شيءٍ يُفضي إلى تعليمِ الشعبِ المِصريِّ من يَدِ المِصريِّين، وأصَرُّوا على أن يأتوا بداهيةٍ من دُهاتِهم هو "دَنْلوب"، ليضعَ برامجَ التعليمِ المِصري.

فكانتِ العاقبةُ أننا بقِينا إلى هذا اليومِ نَرتطِمُ في الأوحالِ التي قذفَنا بها "دَنْلوب"، ونَعيَى عن إصلاحِ التعليمِ بعد الذي ابتُلِيَ به، وبعد تلك الفِئةِ من الرجالِ الذين أنشأتهُم الثقافةُ البريطانيَّةُ وأنشأهُم "دَنْلوب" على ما يريدُ وأعطتهُم بريطانيا مقاليدَ التحكُّمِ في وزارةِ المعارفِ المِصريَّة.

[لسانُ السياسةِ البريطانية || جمهرة المقالات]

ولكنَّا نعلمُ يقينًا أنه ما من شابٍّ نَعرِفُه ذهبَ إلى بريطانيا وعادَ إلى مِصرَ وهو مِصريُّ القلبِ واللسانِ إلا وهو مظلومٌ مُضطهَدٌ في هُوَّةٍ من هَوى النسيان، وأنه ما من شابٍّ نَعرِفُه منهم عادَ إلى مِصرَ وهو يَبرَأُ منها بلسانِه وقلبِه وجوارحِه إلا كفلتهُ بريطانيا ومَهَّدَتْ له حتى يَتبوَّأَ المنزلةَ التي تنبغي لمِثلِه.

[لسانُ السياسةِ البريطانية || جمهرة المقالات]

فعلاقةُ بريطانيا التجاريَّةُ بالبلادِ الضعيفةِ هي أن تجعلَ رؤوسَ الأموالِ مُستثمرةً في البلادِ في يَدِ فِئةٍ من الخَونةِ أو فِئةٍ من الأجانب، وبذلك تضمنُ لتجارتِها مَيدانًا هي صاحبةُ الكلمةِ الأولى فيه وتضمنُ أن يكونَ لهذه الفِئةِ من الخَونةِ أو الأجانبِ السيادةَ التامَّةَ على الشعبِ المُستذَلِّ البائسِ الفقيرِ الجاهل، وتضمنُ أن لا تقومَ لهذا الشعبِ قائمةٌ ما دامتْ هذه الفِئةُ هي صاحبةُ القوةِ المُدمِّرةِ في الحياة، وهي قوةُ المال، وتضمنُ أيضًا ناسًا من هؤلاء الخَونةِ وهؤلاء الأجانبِ يقولون للبلدِ الفقيرِ الجاهلِ البائسِ الذي سُلِبَ قوةَ المال: لم لا تفعل أنتَ مثلَ الذي نفعل؟ وهم يعلمون أنه غيرُ مُطيقٍ أن يفعل، لأنَّ قيادةَ أخطبوطِ القوةِ الماليَّةِ في أيديهم هُم لا في يَدِ الشعبِ المسكين. وليس في الدنيا شيءٌ هو أوضح من هذه السياسةِ اللئيمة.

[لسانُ السياسةِ البريطانية || جمهرة المقالات]

إنَّ فرنسا لم تَدَع في تونس والجزائر ومراكش مكانًا إلا نفثتْ فيه من سمِّها، أو ضربتْ فيه بإبرتِها، أو تدسَّسَتْ إليه بغَدرِها وجهالتِها. إنها أُمَّةٌ لم تَرْعَ ذِمَّةً للإنسانيةِ ولا للمُروءةِ ولا للشرفِ ولا لشيءٍ مما يَصيرُ به الإنسانُ حيًّا مُتميِّزًا من سائرِ الوحوشِ والضَّواري -أُمَّةٌ تفتري على الناسِ افتراءً مَقيتًا ثمَّ تَتبجَّحُ على الناسِ باسْمِ الحريةِ والإخاءِ والمُساواة، أُمَّةٌ من الأذِلّاءِ لم يَكَدِ الغازي يغزو بلادَها في الحربِ الماضيةِ حتى ألقتْ سلاحَها وسجدتْ على مَواطِئِ قدميهِ تمسحُ عنهما غُبارَ الغَزوِ ضارعةً مُتذلِّلة، أُمَّةٌ لم تأنفْ آلافٌ مُؤلَّفَةٌ من أبنائها أن تَطلُبَ التجنُّسَ بالجنسيَّةِ الألمانيةِ يومَ أصابتْها هزيمةٌ واحدةٌ في أوَّلِ حربٍ تُهزَمُ فيها، ولم تَستنكِف نساؤها أن تَفتحَ الأغلاقَ للغُزاةِ غيرَ مُتورِّعاتٍ ولا كريمات.

[أسد إفريقية || جمهرة المقالات]

وبريطانيا وأمريكا وأشياعُهما لا يريدون أن يُدرِكوا أنَّ هذه ساعةٌ حاسمةٌ في تاريخِ العالمِ العربيِّ والإسلاميِّ ومَن يعيشُ معهما من الأُمَمِ التي وقعتْ تحت سيطرةِ الاستعمار، وهُم يُماطِلون ويُراوِغون ويَتملَّصون من الفروضِ التي كتبوها على أنفسِهم في ميثاقِ الأُمَمِ المُتحِدة، وهُم يأبَون أن يَعترِفوا بأننا شعوبٌ تريدُ أن تعيشَ حُرَّةً لأنَّ هذا هو حقُّها في الحياة، فينبغي إذنْ أن نُجَيِّشَ كُلَّ قوانا وأن نعُدَّ العُدَّةَ لإقناعِ هاتين الدولتين ومَن يَلوذُ بهما بأننا قومٌ نأبى أن نعيشَ عبيدًا في دنيا لم يَخلُقها خالِقُها إلا لتكونَ أرضًا للأحرار، وأننا أُمَمٌ لها من الحقوقِ مثل ما لبريطانيا وأمريكا وأشياعِهما، وأنَّ اللهَ لم يخلُق هؤلاء الناسَ ليَسودوا العالمَ ويَستعبِدوا أهلَه بالظُّلمِ والعُدوانِ والكذبِ والتغرير.

[مؤتمر المُستضعَفين || جمهرة المقالات]