🔸سألنا عن ثمالة كلَّ حيٍّ...
هذا عالم سيديره الأطفال بعد الفتيان، سيجدون طريقة يتخلَّصون فيها من عجزهم، يتغلَّبون على ضعفهم، ويقهرون الكبار... فالأمر لم يعد للقامات والأجسام، أما عقولهم، فسوف تتفوَّق على عقول الكبار التي تآكلت بالشهوات، وتخلَّفت بالارتهان إلى الرغبات، فحكت عقول ربَّات الحِجال، حتى ضمرت واضمحلت ومحقت، عندها ستصبح "حلوم الأطفال" هي الغالبة، وأفهامهم هي الفاعلة ثم المسيطرة والحاكمة.
لعلَّه فصل ضمن سلسلة الفُرص المتاحة لحكم الفئات، وقد انتهى طور الفقهاء، بمأساة ولاية السفيه... قد يصلح هذا نصاً أُحفورياً يطوي الزمن ليُكتشف، لفيفة أو عوذة أو طلسماً، أو نبوءة وإلهاماً، وقد يكون تخرُّصاً تأخذ إليه الفوضى والطيش، والهرج الذي نعيش والمرج، وانعدام التوازن الذي لم يوفر حقلاً ولا استثنى ميداناً...
اللهم إلا شرذمة قليلون يتنحون جانباً ويلوذون بـ"الناحية"، يرومون النجاة، ويتحيَّنون سبيل الخلاص وإفراغ الذمة في التزام الأحلاس!
روى الأصبغ بن نباتة أن أميرالمؤمنين عليه السلام كان يجلس للناس في نجف الكوفة، فقال يوماً لمن حوله: "من يرى ما أرى؟ فقالوا: وما ترى يا عين اللّه الناظرة في عباده؟ فقال: أرى بعيراً يحمل جنازة، ورجلاً يسوقه ورجلاً يقوده، وسيأتيكم بعد ثلاث. فلمّا كان اليوم الثالث قدم البعير والجنازة مشدودة عليه، والرجلان معه. فسلَّما على الجماعة، فقال لهم أميرالمؤمنين بعد أن حيَّاهم: من أنتم ومن أين أقبلتم وما هذه الجنازة ولماذا قدمتم؟ فقالا: نحن من اليمن، و أما الميّت فأبونا، وإنه عند الموت أوصى إلينا، فقال: إذا غسلتموني وكفنتموني، وصلَّيتم عليَّ فاحملوني على بعيري هذا إلى العراق، وادفنوني بنجف الكوفة. فقال لهما أميرالمؤمنين: هل سألتماه لماذا؟ فقالا: أجل قد سألناه، فقال: يدفن هناك رجل لو شفع في يوم العرض في أهل الموقف لشفع. فقام أميرالمؤمنين عليه السلام وقال: صدق، أنا واللّه ذاك الرجل‌".
سينبش حكم الصبيان القبور، ويحمل الرمم في نعوش، ويطوف بها ويدير الرؤوس، وتكون سكرة دون خمرة، والعذاب يحلُّ في صوَر، وللسخط لو يعلمون قوس ووتر، وقد تمطر السماء بدعاً من أشرٍ بطَر، وجاهل يحسب أنه ظفر، يحتمي من ثلج وصقيع، سمك البحر فقير وهو في عيش وضيع، قد سألت البحر يوماً هل أنا يا بحر منك؟ لا أحفظ شيئاً من لاميَّة العجم! هل بعد هذا هذي وخطل؟!.. دعوه، سيهاجر هذا النشاز، قبل أن يقال: إنه يهجر.

🔸 في ميلاد الأكبر...

الليلة تكتَب أُحجية احتار في حلها الملأ الأعلى، ويُخطُّ طِلَسْمٌ يحمل أسرار الخلقة ومفاتيح القدرة، ويظهر في المُلك كمال الملكوت، يتجسَّد بين حيرة أذهلت ونشوة ما انفكت، دارت منها الرؤوس وتشابكت الأفكار، وهامت القلوب وتعلَّقت الأنظار، انعقدت على جمال المحيَّا وبهاء الطلعة، لا تطيق انصرافاً منه إلا إليه، في منطق ينساب عذوبة وينصبُّ حكمة بالغة وقرآناً ناطقاً، وبين هذا وذاك، خلُق يحكي قدرة القدير على جعل الجلال وخلع الجمال على ممكن تالٍ للأنوار، لاحق للصادر الأول، وعاء إرادته وقنطرة مشيئته، فكأنه الدليل على "بل يداه مبسوطتان"، وهذا "الأكبر" خير برهان.
وهذه كفُّ الاستجداء مُدَّت إلى أمه ليلى، وعنق الاستعطاف مالت إلى أبيه الشهيد، وبيان الفقر قدِّم إلى جده الأمير، وعريضة الفاقة رُفعت إلى جدته الزهراء، وصحيفة الشكوى نشرت بين يدي جدِّه الأعلى...
التحفة يا سادتي، على قدركم، لا على ضئيل مدحتي ويسير تقريظي...
عبدكم عباس

🔸اتركوا الرجل في قبره...
هذا نداء لمحبي السيد وأنصاره، لا المتاجرين به والمستأكلين بدمائه.
من مصلحة المرحوم أن يبقى في قبره، مغموراً منسياً، بعيداً عن الصخب والضجيج الذي عاشه حياته، عسى أن تنقطع عنه لواحق ما جنى وفعل، وتتوقف شيئاً تبعات ما أرسى وأسس.. لعل ذلك يخفِّف عنه، وتدركه رحمة ربه وشفاعة سادته.
إنه ـ لو تعلمون ـ يستصرخكم من برزخه أن وزِّعوا عشرات الملايين التي ابتعتم بها أرضاً لقبري، وعشرات مثلها ستصرف على تشييده حرماً ومزاراً، بين الفقراء، أو على الذين تهدمت دورهم وفقدوا أحبتهم بسبب أخطاء اقترفتُها، وسوء تقدير بنيتُ عليه سياساتي ومواقفي، وفشل ذريع مُنيت به قيادتي، ابذلوها للمؤمنين واسألوهم أن يعفوا عني ويغفروا لي أن تصديت لأمر لست أهلاً له، لا علم كنت أحمل يسمح لي بأخذهم إلى ما أخذتهم له، ولا فطنة وكياسة تؤهلني لما قُدتهم إليه! لقد كُشف عني الغطاء، وأنا الآن أرى الأمور كما هي، وها أنا أعترف بأن العدو قد استدرجني بإعلامه، وخدعني بمدحه وإطرائه، فانطلت عليَّ خدعته وصدَّقته، واغتررت بحالي ودفعتم أنتم معي الثمن!..
أرجوكم أوقفوا الكفر البواح الذي يقرنني بسادة الخلق وأولياء الوجود، فأنا أحقر من ذرات تراب داسها الحسين بنعله، وأنتم ترفعون لافتة تستبدلني به: "لا يوم كيومك"! وَيْحكم إنهم حكَّام الملكوت وذوي الحظوة في الجبروت، وبيدهم نجاتي من العذاب وخلاصي من العقاب، وأنتم تنزلونني منزلتهم فكيف أنال شفاعتهم؟!
أرجوكم أن تصرفوا الندبة والعزاء والبكاء، إلى سيد الشهداء، وتهدوني ثواب ذلك، فهذا هو ما ينفعني هنا! افعلوا شيئاً يحول دون أن أُحشر في زمرة "مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء"... الموت يا أهل العالم ليس ألعوبة ولا رقماً في مناورة ولا مادة للاستعراض، لقد قامت قيامتي، والأمر مُفزع مُذهل مهول لا يسعه الوصف، لا تصدقوا وسوسة تحدثكم عن ضرورة بناء مشهد لي، إنَّ عزَّ الطائفة وكرامتها في انتسابها لأئمتها، وشرفها في التمسك بهذا الانتساب قولاً وفعلاً، وفي رأس ذلك تعظيم الولاء لسادتها، فإذا قمتم به سيقلب الله الأسباب، ويحول هزيمتكم نصراً وشوكة وكرامة تصنع مجداً حقيقياً، لا موهوماً مثل الذي كنت أعدكم وأمنيكم به.

?البصيرة بعد خراب البصرة..
كان يجول في الأحياء ويدور على البيوت يحيي ليالي الأنس ويواصل حفلات الطرب، يعزف بالمزمار ويضرب بالطنبور، فإذا حانت الصلاة، أدَّاها من جلوس... تعثَّر يوماً في حفرة عميقة، هوى على أم رأسه، فكسرت يداه، وتهشَّم فكه ورضخت أسنانه، ولم يخرج من الحفرة إلا كميت الأحياء، روحاً وبدناً...
أعلن "العضب" "الأدرد" التوبة، وصار يقول بحرمة المعازف والغناء، ويرى الكسب فيه سحتاً أشبه بمال القيادة والبغاء!
أما القنابل الدخانية، وعفير العجاج المصطنع، الذي يستر الخيبة ويداري الفضيحة وينسي الألم واللوعة، فهو المشجب الحمول: علامات الظهور.
من لم تأدبه المواعظ، أدبته الحوادث، إلهي لا يؤدبني بعقوبتك، ولا تمكر بي في حيلتك.

?قناة الفيض وأسباب الهزيمة...
كالدائرة الكهربية، لابد من طاقة واتصال ومفتاح حتى يضيء المصباح...
الفيض من الله سبحانه وتعالى متدفق، نور متشعشع وسيل منهمر، يأتينا من خلال وليه الأعظم، يجري على يد الحجة بن الحسن، وهو سلام الله عليه في متعلقات الأمور العامة وشؤون العباد ومصير البلاد، يباشر دوره في زمان غيبته من خلال نوابه الفقهاء العدول، جامعي شرائط العلم والعدالة الإيمان، وإذا كان ثمة رزق من رأي سديد وحكم رشيد، نزول ملائكة مردفين، ونجدة من كل ناصر ومعين، فهو يهبط على هؤلاء ويبلغ الأمة عبرهم، وهذا ما كان في فتوى الدفاع التي أصدرها المرجع الأعلى. شهدناه بالوجدان ورأيناه بالعيان.
والقوم يطلبونه ممن لم يبلغ الفقاهة ولا يتمتع بالعدالة، سجونه تئن من الأبرياء، وإدارته تضج بالفساد، وحكمه وتدبيره، الذي تشهد عليه تنبؤاته، تضحك الثكلى. أما الإيمان، فالرجل استمات لإحياء فضل الله منكر ظلامة الزهراء، وتهالك في محاربة معالم التشيع وشعائر العزاء، وانتحل من طغيانه صفات الإمام بعد سرقة سلطانه!.. إنهم يتحرون الهلال في النهار، ويطلبون المطر والغيث من سحب الصيف، ويرجون المنعة والحصانة من أوهام نسجها لهم حالم سفيه، سمَّوه ولي الفقيه.

تحليل القائد الملهم، فلتة دهره وعبقري زمانه قبل أسبوعين، يتنبأ بمزيد توسُّع لمحور المقاومة!

?تعطلت لغة الإلهام...
لم تعد ڤيينا وروما تلهمني،
ولا عراقة المدن الأوروبية تجتذبني! لا في قلاعها المنحوتة وأبراجها الشامخة، ولا في كنائسها الأثرية الوادعة، وأديرتها القديمة الساكنة، وكاتدرائيات تصطنع ـ بشاهق أسقفها ـ المهابة! وهكذا أمست سهوبها الممدودة، غابتها السوداء ومنابع الدانوب، سفوح الألب وقممه البيضاء، وألحِق بهذا ثقافتها المشهودة وآدابها المحمودة...
كنت أستقي من ضباب لندن ومصابيح حدائقها العتيقة ودقات بيج بن، ما لا أجده في وطني ومستقري ومسكني، نفحات تأخذني إلى غير رحاب، كانت تخرجني في أحيان عن الرزانة والصواب!
ما عدت كما كنت... حتى رحت أتمثل قول المتنبي:
أصخرةٌ أنا مالي لا تحرِّكُني
هذي المُدامُ ولا هذي الأغاريدُ؟
هل تبدَّلت هي أم تغيرتُ أنا؟ وإذا فعلت، أتقدُّمٌ وارتقاء هو أم تقهقر وانتكاس؟ أم هي ـ ببساطة ـ قوىً خارت وملكات ذبلت، فما عادت اللواقط تعمل ولا المجسَّات تنفعل وتتأثر!؟
أم تراها الروح، إذا خفَّت أو لطُفت، تجاوزت المحسوس، وراحت تحاكي ما يوازي عالمها وتستنطق ما تعيشه من حقائق لا ما تنخدع به من صوَر وأضواء، فترى اللوث والظلمة هناك، وتعود لتأنس بأزقة سوق الحويش، ووعثاء التنقل في وادي السلام، والتلوع بعد التعثر في بِرَك صنعتها زخَّات متواضعة من طلٍّ ورشٍّ على أعتاب الشتاء، عجزت شبكة التصريف المتهالكة عن معالجتها... صرت أتوق إليها وأستلهم منها، مع كل مشهد ونقلة، ومضة وبارقة، وفضاء يرشح بالفيض، تستمطره فيجود دون استسقاء!

?الأكرف يحج بلا إحرام...
رجع الغراب إلى النعيب، وعاد اللاهث إلى العواء، مسعوراً بلوث ما طعم من حرام، ميتة المشاعر، وكراع خنزير بيد مجذوم من زبانية النظام، ومنخنقة وموقوذة ومتردية ونطيحة قُدِّمت على نصُب هبل أو مناة الزمان، جزاء هتك الشعائر والمقدسات وأجر ابتذال العقائد والحرمات... جيوب ملئت من سحت الغناء وحرب مآتم سيد الشهداء، سوَّقها الخبيث لخدمة الشياطين الغواة، وسخَّرها الساقط لتعظيم السلاطين الطغاة.
هذا عطاء النهب والسرقة والفساد، وجزاء الجرأة الأولى، أورثت الإملاء والاستدراج، حتى جعل زعيماً قاد حزبه إلى الهزيمة، وساق طائفته إلى الهلاك وبلاده للخراب، يعدل ضلع كائن ملكوتي جبروتي، كان نوراً يطوف بالعرش وآدم بين الماء والطين! وجعل فقد ذاك ككسر هذا الذي هزَّ العرش، وكاد أن يطوي الفرش، فارتفعت لهوله جدران مسجد النبي، وثارت غبرة محق الأمة وقيام القيامة.
لن يخاطب المؤمنون بعد اليوم جلف عُتل، إنما هي ذكرى لمن ينتصر له، يستبدل دنياً تفنى وحطاماً يزول، بدينه ومذهبه وآخرته، وكأني به يتسوَّل الشفاعة منها في محشره، فتعرض عنه ولا ترد عليه سلامه!
ماتت القلوب من رين ما يكسبون، ومسخت الأرواح بسُكنى الشياطين، فلا أمل ولا رجاء في وغد يحج بلا إحرام، ويطوف بالبيت عارياً على وقع المعازف وإيقاع تراتيل عبادة الأصنام... إنما هي كلمة ترجو أن تسجل في ديوان لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وهذا هاتف يردد: حاشا لربي أن يظلم ويمكِّن الظالمين من رقاب المؤمنين... بل هو ما كسبت أيديهم، ولولا أطفال رضَّع وشيوخ ركَّع وبهائم رتَّع لصُبَّ عليهم صبّاً. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.