من لامس قلبه حبُّ أحدٍ فلا يزال يرجو له الخير حتى وإن تباعدت بهم الأماكن وتفرقت بهم السبل، لأن من لوازم المحبة سلامة القلب التي لا تتغير للمحبوب مهما جرى بينهما، فمحبته قاضية بإرادة الخير والفرح له، أكان قريبًا أو بعيدًا، وقلب المحبة يلهج دومًا له بالدعاء كما يدعو لنفسه أو أشد.

‏"وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها، وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها؛ لأنها قد صارت عندهم بمنزلة العيش الذي لا بد لهم منه، ولو زال عنه رين الهوى لعلم أنه قد شقي من حيث قدر السعادة، واغتم من حيث ظن الفرح، وألم من حيث أراد اللذة". ابن قيم الجوزيَّة

كيف يمكن مواجهة ضغوط الوظيفة ومشاكل الزملاء والتنافس والشائعات في مكان العمل؟

الجواب:
للتعامل مع هذا الموقف بصورة متكاملة، يجب أن تكون خطوات الحل متكاملة تغطي الجوانب النفسية والمهنية والتنظيمية، مع التركيز على تحقيق الاستقرار النفسي والمهني:
أولاً: الجانب النفسي، أهمية الاستعانة بالله، فمن كان الله في عونه كان محفوظًا في قلبه وفي حياته، ثم عليك استحضار النية الصالحة في عملك فهي مصدر الطمأنينة والسكينة. ثم انتبهي إلى إدارة مشاعرك، فحددي المشاعر التي تواجهينها (قلق، إحباط، توتر) وعبري عنها بوضوح لنفسك أو لشخص تثقين به، ثم ضغوط العمل يعاني منها كل شخص وليست حالة فريدة. أما التعامل مع الشائعات، فركزي على العمل بدلاً من الانشغال بالشائعات، واحذري ممن ينقل لك الشائعات فهو نمام غالبًا، والتزمي بالحقائق الموثوقة فقط، وتجنبي المشاركة في تداول المعلومات غير المؤكدة. ومن الضروري البحث عن دعم العلاقات الشخصية، وذلك من خلال مشاركة مخاوفك مع زميلات تثقين بهن لتحصلي على دعمهن. وتذكري أن العمل الجماعي يعزز من القدرة على التكيف، ولا بد من الصبر فهذه هي طبيعة العمل.
ثانياً: الجانب المهني، من المهم توضيح الأهداف والمسؤوليات، فتواصلي مع مديرتك المباشرة لطلب توضيح الخطط والمعايير المطلوبة، واسألي عن تفاصيل التحديثات في العمل وما ينتظر منك لتجنب أي لبس. وفي الوقت نفسه اهتمي بتطوير الذات بشكل منظم، وخصصي وقتًا ثابتًا لتعلم التعليمات الجديدة والبحث عن مصادر موثوقة لفهم المنهجيات المطلوبة، واطلبي دورات تدريبية مباشرة في المكتب لزيادة الفهم والتطبيق، فهذا من حقك.
أما بالنسبة إلى طلب التغذية الراجعة مسبقًا، فبدلاً من انتظار التغذية الراجعة المتأخرة، حاولي طلب مراجعة العمل أولاً بأول، واطلبي لقاءات فردية أو جماعية لتوضيح الملاحظات وتحسين الأداء. واهتمي بتخطيط العمل مع زميلاتكن وبادري بتنظيم حلقات نقاش شهرية مع الزميلات لتبادل الأفكار والتجارب، واقترحي إنشاء مجموعات عمل صغيرة لتقديم الدعم لبعضكن البعض.
ثالثاً: الجانب التنظيمي، لا بد من الاهتمام بإدارة الوقت والمهام، وذلك من خلال تقسيم العمل إلى أجزاء صغيرة ومراحل محددة، وضعي خطة عمل واضحة. واستخدمي أدوات تنظيم المهام مثل جداول العمل أو التطبيقات الإلكترونية. كوني على تواصل إيجابي مع مديرتك في العمل، واقترحي تحسينات تنظيمية مثل عقد ورش عمل أكثر تفاعلاً أو جلسات استفسار مباشرة، ووثّقي التحديات التي تواجهينها واقترحي حلولًا عملية.
رابعاً: تحسين الاستقرار النفسي لا يأتي هكذا، فالجانب الإيماني مهم وهو يلهمك الاحتساب والصبر، ثم يقوي لديك تبني العقلية الإيجابية، وتذكري نعم الله عليك، وركزي على النجاحات الصغيرة التي تحققينها، واعتبري الأخطاء والتحديات والتنافس غير الأخلاقي من الآخرين فرصة للتعلم وفرصة لتقوية حصانتك. انتبهي، فالعمل أحيانًا إذا كان محيطه سلبيًا وأنت حساسة ممكن أن يدمر طاقتك النفسية، فخصصي وقتًا للراحة والفرح مع أسرتك بعيدًا عن العمل، واستلهمي منهم طاقة إيجابي لمواجهة صعوبات زميلاتك ووسطك في العمل، وشاركي أسرتك أو زوجك همومك واطلبي مشاركتهم تقديم الحلول الواقعية. وكوني في عملك مرونة ومتكيفة مع القرارات بإيجابية، واقبلي فكرة أن التغيير جزء من العمل، واعملي على التكيف معه بمرونة، وتعاملي مع الأخطاء بوصفها جزءًا من رحلة التعلم.
حاولي دائمًا الموازنة بين التحديات المهنية والحفاظ على استقرارك النفسي، وذلك بزيادة جرعة الإيمان الاتصال بالله، وتقوية علاقتك بأسرتك، فهم الحديقة الخلفية لروحك. تذكري أن عملك أمانة، والاجتهاد في تقديم الأفضل هو ما يُطلب منك، وليس الكمال هو المطلوب. وإذا شعرتِ أن الوضع النفسي يستمر في التدهور، فلا تترددي في طلب مساعدة مختص نفسي واجتماعي، وكلنا نتعرض للضعف ونحتاج إلى مساعدة من خبير.

حين رأيتُه -صغيرًا- وقد افترش الرصيف بجوار التموينات في الحي الذي أسكن فيه، وقد تلطخت ملابسه الرثة بأصباغ مواد البناء، وكسا وجهه ورموشه غبار الأسمنت، وهو يتناول إفطاره بقيمة ريال بشغف، مستغرقًا في الضحك والحديث مع صديقه العامل الآخر، أدركتُ كم كنت تائهًا، وأجهل سر الفرح، ولم أدرك حقيقة أن الفرح في القلب وليس بالمظاهر الخادعة والمتكلفة!
أعوام عديدة مضت وفصلتني عن ذلك الموقف وعن رؤيتي لشاب مشهور وثري، استوقفني بسبب هيئتي الظاهرية يطلب مني الرقية عليه، ولستُ براقٍ، ظن أنه أصيب بعين أو سحر. رمقته بنظرة حزينة اختلطت بشعور غريب، ونصحته بأن يرقي نفسه، ثم ألمحت له أن علاجه يكمن في أن يبحث عن معنى لحياته، فالفرح الذي يبحث عنه لاهثًا بعيد عن الضجيج والأضواء!

‏"وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقرأ في الفجر بسورة يونس ويوسف والنحل، فمر بهذه الآية (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) في قراءته فبكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف". ابن تيميَّة

"فَإِذَا خِفْتِ عَلَيهِ فَأَلْقِيهِ في الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَني".

‏قلتُ: أذهلتني واستوقفني هذه الآية الكريمة حين سمعتها، كيف أن الأم، وهي الأم، حين خافت على رضيعها الهلاك أمرها ربها أن تلقيه في اليم، الذي يبدو كطريق آخر لهلاك الطفل، ومع ذلك يقول الله لها: (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَني)!
فأدركتُ أنَّ امتثال أمر الله سبحانه والتسليم له تعالى هو أصل النجاة وطريق السلامة، حتى وإن ظهر ذلك في بدايته، في موازين البشر المادية، أنَّه طريق للخطر والهلاك. فقد حفظه الله وهو في قلب الأخطار، وليس هذا فقط، بل: (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

هاربة لا تدري مما تهرب منه، فكل الذي تريده هو أن تهرب، شاردة الذهن تخاف من نفسها، مسرعة في الخطى تلتفت في كل اتجاه، تبحث عن بصيص نور، عن وميض أمل، خطواتها أسرع من أفكارها، وأفكارها أوسع من طريقها، وهي في ذهولها كطائر مذعور، يحلق بلا وجهة، يبحث عن مأمن في فراغ لا نهاية له. شاردة، يحملها الخوف كريحٍ عاتية، تخشى النظر إلى وجهها في مرآة أعماقها، حيث الحقيقة عارية كجمرٍ يكوي. وهناك في وسط الطريق وقفت، كما لو أن قدميها تمردتا على المسير، أو أن قلبها قد أنهكته خفقات الهروب، لقد ملَّت المسير، وكرهة الهروب اللانهائي؛ وتنظر إلى يديها كمن فقد كل شيء، وها هي متوجعة حزينة، وقد تصاغرت في حزنها وتناهت حتى صارت هباءً تحمله الرياح في كل اتجاه، وتلقيه في كل زاوية من هذا الوجود.
وفي أعماق قلبها، صدى استسلام، يرن في أعماقها كجرس خافت في مدرسة مهجورة، وشعرت بكيانها يتلاشى. وفي نهاية المطاف، استسلم قلبها وأذعنت روحها، استسلم كل ما في داخلها، وصراخ في أعماقها أنها تتلاشى، فلم تر نفسها في الوجود إلا كظلٍ مستمر في الغروب، حروفها تتعثر وتتساقط كأوراق خريف ذابلة، تهرب الكلمات من فمها، وتزدحم المشاعر في صدرها، وتسلك الكلمات طريقًا آخر، طريق العيون، وتصير قطرات من دموع، وفي بقعة من تلك الدموع رأت وجهه فيها، ينعكس فيه الضياع والحزن، وهناك لمحت صورتها ترتسم في انعكاس غامض كمرآة داكنة، وفيها بدأت نقطة من عالم الظلام، نسجت من خيوط مآسيها حكاية، حكاية حزينة، بكت كسحابة بقيت وحدها عالقة في السماء، وعند المساء هطلت قطراتها فسقطت كنقطة حناء، في كف طفلة، وكعادتها بعد كل سقوط في متاهات الأحزان نهضت، فلم يكن سقوطها نهاية، بل كان بعثًا خفيًّا، وشعلة صغيرة تتقد في أعماقها. وهناك، في زاوية القلب المكسور، ولدت من جديد، كزهرة تنبت من صدع صخرة، وتحدت كل قسوة لتعلن أنها لا تزال حيَّة، وأنها ولدت من جديد كالعنقاء تنهض من رمادها.

كانت مشكلتها المزمنة أنَّها لا تتكلم، كانت تحزن ضاحكة، وتبكي باسمة، وتتألم دون أن تبدي ملامحًا، وتصرخ صامتة، وعندما يسلب منها ما يخصها كانت تدير ظهرها وتنصرف في هدوء. كانت قانعة في الظاهر أكثر من القناعة نفسها، وكان الجميع يحسدونها حتى على سكونيتها تلك، لكنهم لم يكونوا يعلمون أنها حينما تكون وحيدة كانت تخوض حربًا ضروسًا في عقلها، وكانت تقاتل العالم كله في خيالها، وكانت كالبركان الذي يتكون شيئًا فشييًا، وقد حانت ساعة ولادته!

قيل إنَّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه سُئل فقيل له: كم عندك من صديق؟
‏فقال: "لا أدري الآن، فالدنيا مُقبلة عليَّ، فالناس كلهم أصدقائي، وإنما أعرف ذلك إذا أدبرت، فخير الأصدقاء من أقبل إذا أدبر الزمان عنك".

الثقة المطلقة بالله وحسن الظن به؛ برهان صادق على محبته الخالصة.