من خير ما يُرزق الإنسان من النِّعم في هذه الدنيا القاحلة، أن يكون مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيِّ يُريدون وجهه، فينال فضل صفاتهم، وتعمّه بركة خيراتهم، ويكونون عونًا له على نفسه، وزادًا يستعين به على سُقيا قلبه، وصيبا نافعًا في قيظ الحياة وسفرها.

«لمَنِ الدِّيارُ كأنّها لم تُحْلَلِ» ..

شطرُ بيتٍ كأنّه - داخليًّا - عيشُ عُمر، كيف يحيا الشُّعراءُ بوجدانهم الكامل في قصائدهم ليتفتّق عنهم هذا الإبداع الجليل .. لا أدري ..
..
«شمّاءُ واضحة العوارض طفلةٌ ..
كالبدرِ من خَلَل السَّحاب المُنجلِي».

الصُّورة في مثل هذا اليوم: (28-2-2022).

أكثر ما تأمّلتُ فيه زمنًا ذكره ـ رحمه الله ـ لعين القدر الكوني/الرّحمة، وعين الشّرع والأمر/النّصيحة، وعدم ظنّ العبد فضله أو استحقاقه بفعل الثانية، فإن شاء سُبحانه أزاغ القلبَ ونزع عنه نعمة الهداية فضلاً عن الدّلالة، ثمّ تعقيبه لذلك بذكر كمائن النّفس الخفيّة والانتصار لها دقيق.

الأبيات من نونيّة ابن القيم رحمه الله.

في كتاب الله يقترنُ الفرقان والرِّزق والمخرج والكفاية للعباد بـ«التَّقوى»، بعضها له أسبابٌ أخرى حسيّة مُباشرة، ولكن القرآن يقرن الأرزاقَ العظيمة والجزاءات المُباركة حتى الدّنيوية منها بالتقوى، التقوى تقلبُ موازينَ الجزاء؛ لأنّ أرزاقها ـ حتى المادية منها ـ مُباركة موصولةٌ بالآخرة.

أتأمّلُ لماذا شُرع لنا "الاسترجاع" وثبتت سُنّيته، واقترن في كتاب الله بأنواع الابتلاءات جميعها صغرت أم كبرت - في قوله تعالى: ﴿ولنبلونّكم﴾ -.

إنّ حلول مشاعر المُصيبة وما يُصاحبها من الفزع أو الفراغ السحيق والدّوار الناتج عن فُجاءة البلاء بأنواعه ومساراته كافّة - كما في تفصيل الآية - يُصارعها الاسترجاع بمعنى يتجاوزها جميعًا «وجود الله»، والإقرار بأنّنا مملكون لله، للخالق كامل الذات والصفات، وهذا يقتضي الإيمانَ بكمال صفاته سُبحانه، بكمال رحمتِه سُبحانه، وكمال حكمتِه في تصريفه لأقداره وقضائه في خلقه، وعدالة جزائه، أن يخلع الإنسانُ عنه «نفسَه»، بكل مُتعلّقاتها، ويُسلّمها لله؛ هو لله حالاً، وسيرجعُ إليه مآلاً.

لحظة استحضار القلب لـ «وجود الله» عند نزول المصاب أو حتى الابتلاء هي لحظة عظيمةٌ جدّا في الميزان التشريعي والإيماني، لحظة يُمكنها تغيير كفّة الميزان كلّه، أجرًا وعيشًا وعاقبةً ورباطًا على القلب وحسنَ جزاء.

باستحضار هذا المعنى الإيماني الأعظم والأسمى والإصرار عليه والمُجاهدة به حال نزول المُصاب وعدم توقّف اللِّسان عن اللّهج بالاسترجاع والجوارح بتحقيق مُقتضاه رغم فراغ القلب وهول المصاب = تتحقّق كمال العبوديّة والغاية من الخلْق؛ يُصرَف الكِبرُ عن القلب، وتوهّم الاستحقاق عن العقل والنّفس، تتطهّر مضغة القلب، وتتواضع أدوات الإنسان وأسبابه وتظهر حقيقةُ ضعفها الجليّة، تُبصَر مساحات "تحكّم" الإنسان الحقّة، أنّها في حقيقتها صفرٌ إلا ما شاء الله منها أن تكون له؛ فيتلاشى ظنُّ القوّة، ويخضع القلبُ والجوارح للمولى الخالق والمدبّر سُبحانه.

فتكون العاقبة: ﴿وبشِّر الصابرين﴾ بشارةً مفتوحة الرزق، وتكون العاجلة: حلاوةَ إيمان عظيمة ورباط على القلب؛ فيتعاطى العبد مع الابتلاء على غير السَّنن الإنسانية المألوفة، ما كان يستطيعه لو أُوكل لنفسه ﴿لولا أن ربطنا على قلبها﴾، ﴿وليربط على قلوبكم﴾، ﴿وربطنا على قلوبهم﴾، فيغدو الجزاءُ العاجل دلالةَ صدق الآجل، ويُرزق اليقين والتسليم.

ما أجمل وصف العالِم الربّاني فريد الأنصاري رحمه الله لمكانة وحضور قيام اللّيل من التشريع الإسلامي حين قال: «إنّه ذُكر على أنه نوعٌ من "الخلاص" للإنسان»، ونظر لأعلى حين قال ذلك.

واصبر نفسك مع الذين يدعون ربَّهم، هذا العطاءُ الجليل، أن يرزقك الله قربَ الذين يدعون ربَّهم لا يريدون غير وجهه، أن يصطفيك لجوارهم ويرزقك صحبتهم في هذه الدُّنيا، هذا العطاء إن أوتيتَه فقد أوتيتَ عظيمًا جليلاً، هو رزقٌ ليس يُؤتاهُ كل أحدٍ؛ فلا تَعدُ عيناك عنهم أبدًا، وأقبل عليهم، واصطفيهم، وتقرّب إلى الله بهم.

هذه النفائس هي ما نُزاحم بها هذه الدُّنيا، وتبعث فيها مادّة حياةٍ ونور ..

﴿إنما نطعمكم لوجه الله لا نريدُ منكم جزاءً ولا شُكورًا﴾ ..

«فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله».

‏كلّما تأمّلتُ في هذا الوصف النبوي العظيم لكتاب الله، خشع قلبي لبلاغة هذا الوصف، ولأفضليّته المطلقة في الصدق، إنّه نعمة ورحمة، ميزانٌ عظيم عدل؛ تجد فيه نفوس «الصادقين» بغيتهم وضالّتهم، وتطمئنُّ بها جوارحهم وأفئدتهم.

الإنسان في مواقفه الأخلاقية الحاكمة والعاملة، ولحظاته الحرجة والفارقة، ووحشته من الحياة الدنيا تغشاه حُجبها وتتقاذفه نسبيتها، وتفسد بعض موازينه أو تضطرب، إنه يحتاج لمُطلق صادق يحتكم إليه، يُطمئِن نفسه وعمله به، يزن به معياره وأحكامه، وكلام الله سبحانه مُعجز، لا أصدق منه ولا أعدل.