قناة احمد علي على تيليجرام ( شروحات تقنية ، تطبيقات ، أفلام ومسلسلات ، خلفيات ، و المزيد )
Last updated 2 months ago
يرمز تيليجرام إلى الحريّة والخصوصيّة ويحوي العديد من المزايا سهلة الاستخدام.
Last updated 3 months, 1 week ago
- بوت الإعلانات: ? @FEFBOT -
- هناك طرق يجب ان تسلكها بمفردك لا اصدقاء، لا عائلة، ولا حتى شريك، فقط انت.
My Tragedy Lies With Those Things That Happen in One Second And Remain
- @NNEEN // ?: للأعلانات المدفوعة -
Last updated 3 months, 4 weeks ago
🟢هل أنت مهتم بالفلسفة والفكر؟[◯ نعم
◯ لا](https://t.me/ART3II/2276)
يتبع ...
مختلفة عن الشيء الواحد، فيأخذ العقل في الاختيار والتفضيل، ويقبل هذا ويرفض ذاك حتى يكوِّن لنفسه حقيقة الشيء المُحَسِّ، فإن نقلت إليَّ شكلًا بيضيًّا لهذا القرص أدرك عقلي صورته الحقيقية وهي أنه مستدير، أما إذا كانت المعرفة سلسلة من الإدراكات الحسية فليس لنا الحق في تفضيل إدراك على إدراك آخر؛ لأنها جميعًا معرفة، فهي جميعًا حق.
(٣)تؤدي نظرية السوفسطائيين إلى نتيجة محتمة وهي استحالة التعليم والحوار وبطلان الأدلة والبراهين؛ لأنه إن كان كل إدراك يأتي به الحس حقًّا، ولا تَقِلُّ قوة حقيقته عن أي إدراك آخر، لزم أن يكون إدراك الطفل في مستوًى واحد مع إدراك معلميه من حيث أن كليهما يحس الحقيقة، وإذًا فيستحيل على معلم أن يعلم شيئًا، أما الأدلة والبراهين والحوار فلا يكون فيها غناء؛ لأن مجرد القول بأن شخصَيْن يتنازعان على حقيقة شيء ما يتضمن أنهما يعتقدان في أن لذلك الشيء حقيقة خارجية يختلفان عليها، فإذا تناقض إدراكهما له وجب أن يكون أحدهما على الأكثر هو وحده المُصيب، أما أن نسلم بأن كلَيْهما على حق فيما يقول فتسليم بأن كل حوار أو تدليل لغط لا ينتهي إلى شيء.
(٤)لو كانت الحواس هي مقياس الحقائق لاشترك الحيوان مع الإنسان في إدراك الحقيقة؛ لأنه يشترك معه في الجانب الحسي منه، وإذن لوجب أن يكون الحيوان مقياسًا لكل شيء، كالإنسان سواء بسواء.
(٥)تناقض هذه النظرية نفسها بنفسها، وحين يقول بروتاجوراس «إن ما يبدو لأي شخص أنه الحق فهو حق بالنسبة له» يثبت بهذا القول نفسه فساد رأيه؛ لأنني إذا قلت إن نظرية بروتاجوراس تبدو لي أنها باطلة وجب أن يعترف معي بروتاجوراس نفسه أنها كذلك، وإذن فلا نظرية هناك يعترف بصحتها جميع الناس.
(٦)القول بهذه النظرية لا يجعل فاصلًا بين الحق والباطل، فكل شيء حق وباطل في آن واحد، وإذن فاللفظتان تعنيان معنًى واحدًا، أو لا تعنيان شيئًا؛ وعلى ذلك فيكفي أن تقول إنني أدرك كذا أو كذا دون أن تضيف إليه صفة الحق؛ لأنها كلمة فارغة لا يُقصَد بها معنًى.
(٧)لا يخلو إدراك كائنًا ما كان من عنصر خارج عن عمل الحواس، فإذا قلت مثلًا «هذه الورقة بيضاء» فقد تظن أن هذا إدراك جاءك عن طريق الحواس وحدها، والواقع أن فيه جانبًا كبيرًا من عمل العقل، إن حاسة الإبصار قد نقلت إليك صورة معينة، فمن أدراك أنها ورقة وليست قطعة من الخشب أو النحاس؟ أليس هذا الحكم بأنها ورقة نتيجة لعملية عقلية سريعة قارنت بها هذا الجسم الذي تراه بمجموعات الأنواع التي في ذهنك، فلما رأيت فيه صفات الورق حكمت بأنها ورقة، ثم أجريت مقارنة أخرى من حيث اللون، فقست هذا اللون المعين الذي ينقله إليك البصر بمعلوماتك السابقة عن الألوان، وحكمت آخر الأمر أنها بيضاء، وإذن فيستحيل أن تحكم على الشيء المحسِّ بنوعه إلا إذا كنتَ عالمًا بمواضع الشبه بينه وبين أفراد نوعه، وبمواضع الخلاف التي تميزه من أفراد الأنواع الأخرى التي حصلتها تجاربك الماضية، وهذه المقارنة السريعة التي لا بُدَّ منها قبل الحكم بأن ما ترى قطعة من الورق هي في الواقع عملية عقلية محضة، يستحيل أداؤها على الحواس؛ لأن أعضاء الحس تنقل الصورة الخارجية، كل عضو في دائرته المعينة، دون أن تشترك جميعًا في بناء الصورة، فالعين تحمل الشكل، والأصابع تحمل الملمس، والأنف ينقل الرائحة وهكذا، فإذا وصلت هذه الجزئيات إلى الذهن تظل هكذا مفككة لا يتصل بعضها ببعض إلا إذا أدركها العقل فكوَّن منها صورة تطابق صورة الشيء الخارجي.
وخلاصة القول: أنَّ العلمَ لا يُمكن أن تأتي به الحواس وحدها، وأنَّ العقل هو الأداة التي نستعين بها في الوصول إلى المعرفة مهما كان نوعها، ولا بد من التفريق بين العلم الصحيح والرأي الشخصي.
وإلى هنا سار أفلاطون في نفس الطريق التي سلكها أستاذه سقراط، حيث انتهى إلى أن المدركات العقلية وحدها التي يعبر عنها بالتعاريف هي العلم، ولكنه لم يقف عند هذا الحد الذي وقف عنده سقراط، بل تابع السير حتى وصل إلى الحقيقة المطلقة بنظرية المثل التي ننتقل الآن إلى شرحها.
(٢) نظرية المُثُل
انتهى سقراط إلى أن العلم الصحيح هو الإدراكات الكلية التي يصل إليها العقل بعد استعراض الجزئيات وجمع الصفات الجوهرية المشتركة بينها، واستبعاد الصفات العرضية التي يتصف بها بعض الجزئيات دون بعض، وأضاف إلى ذلك أن التعريف هو في الواقع تعبير عن تلك الإدراكات الكلية، وهذه التعاريف هداية للإنسان في تفكيره وفي سلوكه، ترسم له الطريق واضحة مستقيمة، فتعريف الفضيلة — مثلًا — لا يدع أمامنا مجالًا للشك في قيم الأعمال؛ لأنه سيكون لنا بمثابة مقياس نقيس به العمل، لنرى هل فيه ماهية الفضيلة كما نفهم من تعريفها، فيكون العمل خيرًا، أوْ ليست فيه فيكون شرًّا، ولكن سقراط حين قرر أن هذه الإدراكات الكلية التي يصل إليها الإنسان بعقله هي المعرفة وقف عند هذا الحد، ولم يعتبر أن لها وجودًا معينًا في الخارج، فأتى أفلاطون وخطا بعد أستاذه خطوة انتهت به إلى هذه النظرية التي هي من فلسفته كالأساس من البناء، فقد سلم
4
figure
أفلاطون مع تلاميذه (وهو أولهم من الشمال).
وتستطيع أن تقسم كتبه إلى مجموعات ثلاث، تطابق على وجه التقريب ثلاث المراحل التي انقسمت إليها حياته: أما الأولى فقد كتبها في نحو العهد الذي مات فيهس سقراط وقبل موته بقليل، أي قبل أن يغادر أثينا في رحلاته إلى ميغارا٢ وغيرها، وأوضح خاصة لما كتب في تلك المرحلة الأولى: البساطة والقصر، وهي في مجموعها صدًى لفلسفة سقراط؛ إذ لم يكن أفلاطون قد أنشأ بعد لنفسه فلسفة مستقلة، فجاءت مادة الحوار ممثلة لآراء سقراط، وكل فضله ذلك الأسلوب الأدبي الجميل الذي عبر به عن تلك الآراء.
أما المجموعة الثانية من كتب أفلاطون، والتي تقع في المرحلة الوسطى من مراحل حياته، أعني في تلك الفترة التي أنفقها في الانتقال من بلد إلى بلد، فترى فيها إلى جانب آراء سقراط طائفة من آراء المدرسة الإيلية التي أخذها وهو في ميغارا عن صديقه إقليدس الميغاري، وفي هذه المجموعة الثانية كذلك ترى فلسفته الخاصة قد أخذت في التكوُّن، وترى فكرته الأساسية التي يقوم عليها بناؤه الفلسفي — وأعني بها نظرية المُثل — قد بدأت في الظهور، ولكنه ظهور غامض يكتنفه بعض التهويش والاضطراب، كأنها لم تكن قد اتضحت بعد في ذهنه وضوحًا تامًّا؛ ولذا تراه في محاوراته فيها يتعثر في التعبير ويغمض في الشرح، لا ينطلق لسانه في سهولة ويسر؛ لأن الأفكار في ذهنه كانت نيئة لم تنضج بعد فلم يقوَ على تذليلها، بحيث تجري مع قلمه طيعة، وإذن فلن تجد في هذه المجموعة الثانية جمالًا في الأسلوب ولا ألوانًا من الفن كالفكاهة اللطيفة التي عهدناها في المجموعة الأولى، وكل ما يصادفك هنا مادة متصلة في الحوار كلها أدلة عقلية، وحجج منطقية.
أما المجموعة الثالثة التي أثمرتها مرحلته الثالثة من مراحل حياته التي قضاها في الأكاديمية في أثينا، فهي ناضجة أتم النضوج وفيها ترى أفلاطون قد اكتمل نموه، وسيطر على أفكاره وآرائه فاستطاع أن يجريها في عبارات فنية رائعة سلسة صافية، فعاد الأسلوب في هذه المرحلة إلى صفائه ونقائه الذي لازمه في المرحلة الأولى، فإن كانت المجموعة الأولى تتميز بطابع الجمال الذي في الأسلوب، والثانية بالعمق في التفكير، فقد جمعت الثالثة بين هذَيْن الطابعَيْن، وجاءت فكرًا ناضجًا في أسلوب جميل.
وقبل أن نبدأ في بسط الفلسفة التي جاءت في تلك المجموعات الثلاث التي ملأها أفلاطون بالحوار، يجمل بنا أن نسارع إلى ذكر أقسامها ليسهل تتبعها على القارئ، فهي تنقسم إلى أربعة أقسام:
(١)نظرية المعرفة التي يكمل بها ما أبداه سقراط من تفنيد مذهب السوفسطائيين.
(٢)نظرية المُثُل التي تبحث في الحقيقة المطلقة.
(٣)والطبيعة (الفيزيقا) وهي تبحث في ظاهر الوجود من حيث هو مادة تملأ المكان والزمان.
(٤)والأخلاق وتشمل المبادئ السياسية، وواجبات الإنسان من حيث هو فرد، ومن حيث هو عضو في مجتمع.
(١) نظرية المعرفة
كان السوفسطائيون يقولون إن المعرفة كلها مترتبة على الإدراكات الحسية، وهي لذلك مختلفة عند الأشخاص؛ لأن هذه الحواس وهي مبعث الإدراكات لا تتفق عند الناس جميعًا، فلما أتى في أثرهم سقراط، وأراد أن يثبت أن العلم ثابت الحقائق، وجه إلى السوفسطائيين نقدًا هدم قولهم من أساسه، وأقام الدليل على أن المعرفة عبارة عن مدركات عقلية؛ لأنها تتكون في مجموعها من حقائق كلية استخلصها العقل لا الحواس من الجزئيات، ولما كان العقل عنصرًا مشتركًا لزم أن تكون الحقيقة عند شخص معين هي نفسها الحقيقة عند شخص آخر.
وها هو ذا أفلاطون ينهض بعد أستاذه فيواصل بعده الطريق حتى ينتهي إلى نظريته الهامة — أعني نظرية المُثُل — وهي قطب الرحى من فلسفته، وأساسها التي تقوم عليه وأصلها التي تتفرع منه.
ولما كانت نظرية المُثُل تعتمد كل الاعتماد على نظرية المعرفة، أراد أفلاطون أن يبدأ البناء بوضع الأساس، فلا يخطو في نظرية المثل خطوة واحدة قبل أن يأتي بمعوله على كل أثر لنظرية السوفسطائيين في المعرفة، وإذا ما فرغ من ذلك كان طريق السير مُعبدًا ممهدًا، ونستطيع أن نلخص النقد الذي وجهه أفلاطون إلى النظرية السوفسطائية في النقط الآتية، وقد ذكر ذلك أفلاطون في كتاب له اسمه ثياتيتوس Theaetetus:
(١)يقول بروتاجوراس: إنَّ ما يبدو حقًّا لشخص ما فهو حق بالنِّسبة إليه، فماذا يقول فيما يبدو للناس أنه الحق عن حوادث المستقبل، فقد يؤكد شخص أنه سيكون وزيرًا في العام المقبل، وإذا به يستقبل عامه في غيابة السجن، وإذًا فما ظنه حقًّا لا يأتيه الشك تبين أنه وهم باطل أثبتت خطأه الأيام.
(٢)كيف نتخذ الحواس سبيلًا إلى العلم، وهي تحمل إلينا إدراكات متناقضة، فهذه الشجرة كبيرة إذا دنوت منها، صغيرة إذا بعدت عنها، وهذا الكتاب خفيف إذا قارنته بوزن المائدة، وهو ثقيل إذا قارنته بالقلم، وهو أبيض اللون في ضوء الشمس، أخضره في ضوء آخر، ولا لون له في الظلام، وهذه الورقة مربعة إذا نظرت إليها من أعلى، وهي ليست كذلك إذا تغير موضع نظرك إليها، فأي هذه الآثار حق وأيها باطل؟ إن الحواس تحمل إلى أذهاننا آثارًا
3
وقد بدأ بهذه العودة إلى أثينا المرحلة الثالثة والأخيرة من حياته، لزم فيها أثينا لم يغادرها قط، اللهم إلا رحلتين قصيرتين اضْطُرَّ إليهما اضطرارًا سنحدثك عنهما بعد حين، وفي هذه المرحلة الثالثة كان أفلاطون معلمًا وفيلسوفًا، خصص نفسه للتفكير والتعليم، وانتحى مكانًا هادئا بعيدًا عن جلبة المدينة وضجيجها، هو أحد الملاعب الأثينية، يقع قريبًا من المدينة في شمالها الغربي، وكان يُسمى باسم أحد الأبطال القدماء هو أكاديمس، فأطلق على الملعب اسم أكاديمي أو أكاديمية،١ وهنا ألقى الفيلسوف عصاه، والتف حوله طائفة من التلاميذ أخذ يعلمهم الحكمة، وظل بقية حياته — وهو ما يقرب من أربعين عامًا — يشتغل بالفلسفة والتعليم، وكتابة آياته الفنية الرائعة، وقد سلك في حياته أسلوبًا يناقض طريقة أستاذه سقراط، فهما يتفقان في نقطة واحدة هي التعليم بالمجان، ثم يفترقان بعد ذلك في كل طرائق العيش، فبينما كان سقراط يجول في الطرقات والأزقة يلتمس فيها الحكمة، ويناقش في ساحة السوق وأمام الحوانيت كل من أراد مناقشته، كائنًا من كان، كان أفلاطون يلتزم مكانًا معينًا منعزلًا هادئًا، لا يحاور إلا من جاء يسعى إليه من تلاميذه المخلصين، ولعل ذلك كان خيرًا لتقدم الفلسفة تقدمًا فسيحًا، وهل تظن أن فلسفة عميقة شاملة منظمة كانت تستطيع بذورها أن تنبت في مثل هذه الحياة التي اتبعها سقراط، لا يدور فيها الحوار حول فكرة معينة، بل تتشعب أطرافه، وتُبَعْثِر وحدتَه الأسئلةُ العرضية؟ كلا بل لا بُدَّ للفلسفة إذا أرادت أن تنشئ نظامًا تشتمل دائرته على أطراف العالم، من دراسة عميقة متصلة تجري في هدوء ساكن منعزل كالتي ظفر بها أفلاطون بين جدران مدرسته، والتي خلد إليها أربعين عامًا كاملة، تخللتها رحلتان قصيرتان إلى صقلية، حين أرسل في دعوته ديونيسيوس الصغير، الذي تقلد منصب الحكم في سرقوسا بعد موت أبيه، دعاه لكي يطبق على دولته ما كان يحلم به من نظام الدولة المثلى، وأول شرط لتلك الدولة هو أن تُوضع مقاليد الحكم في أيدي الفلاسفة، فهم وحدهم قادرون بحكمتهم أن يسيروا بالدولة في صراط مستقيم لا عوج فيه ولا اضطراب، ولا خير في دولة لا يكون حاكمها فيلسوفًا، فأراد هذا الملك الناشئ أن يحقق لأفلاطون هذا الشرط فيأخذ عنه الفلسفة، ليضيف إلى شخصيته الحاكمة شخصية الفيلسوف، فقبل أفلاطون تلك الدعوة مغتبطًا بما أُتيح له من فرصة نادرة، يستطيع فيها أن يطبق نظريته تطبيقًا عمليًّا، وهو ما لم يكن يستطيعه في بلاد اليونان نفسها، ولكن ذلك الملك الشاب لم يلبث أن ضاق ذرعًا بالفيلسوف وتعاليمه، وكاد يبطش به لولا أنه أسرع بالعودة إلى أثينا، ولم يمضِ على ذلك أعوام قلائل حتى عاد فدعاه مرة ثانية، وقبل أفلاطون الدعوة كذلك؛ لأنه راغب أشد الرغبة في تحقيق رأيه في الدولة، ولكن هذه الرحلة لم تكن بأحسن حالًا من سابقتها، فقد سئم ديونيسيوس الصغير دراسة الفلسفة، وفسد ما بينه وبين أفلاطون، وهم بأن يناله بالتعذيب، لولا أن جماعة ممن ينتسبون إلى المدرسة الفيثاغورية مهدوا له سبيل الفرار فعاد إلى أثينا، وكان قد بلغ عامه السبعين، ولبث في أثينا يدبر شئون الأكاديمية، ولا يحاول أن يتصل بالسياسة العملية مطلقًا حتى وافاه الموت وعمره قد نيف بسنتَيْن على الثمانين.
أما كتب أفلاطون فقد صاغها في أسلوب الحوار، واتخذ من سقراط بطلًا للكثير الغالب من تلك المناقشات المكتوبة، فيجري على لسانه ما يريد أن يقوله هو من فلسفة مضافة إلى فلسفة سقراط نفسه، وبذلك امتزجت آراء سقراط بآراء أفلاطون؛ حتى لا تستطيع أن تميز بينهما في كثير من المواضع، ولم يكن أفلاطون في كتابته فيلسوفًا فقط بل كان كذلك أديبًا فنانًا، فحواره مملوء حياة بما أودع من خيال حسن وفكاهة لطيفة، وقص حوادث وإدخال أشخاص ذوي شخصيات مختلفة يمثلون أدوارهم تمثيلًا دقيقًا.
وأظهر شيء في أسلوب أفلاطون أنه أسلوب خيالي، فهو لا يشرح فكره بوضوح وبطريقة علمية مباشرة، ولكن يشرحه من طريق الاستعارات والأساطير والقصص، وهي طريقة جميلة في كثير من الأحيان ولكنها مربكة، فكثيرًا ما يتردد الباحث هل هو يريد المعنى الحقيقي لكلامه، أو هو قد أتى به على طريق الاستعارة، وأنه يرمي إلى معنًى آخر، وقد جاء هذا من قِبَل أنه فيلسوف شاعر، أو فيلسوف وأديب معًا، واجتماع الفلسفة والشاعرية خطر؛ لأن غرض الفلسفة فهم الحقيقة وشرحها من الطريق العلمي، وغرض الشاعرية مجرد شعورك بالحقيقة ووصف إحساسك بها بعرض صور واستعارات ومجازات وما إليها، فإذا كان الإنسان فيلسوفًا شاعرًا فهناك الخوف من أنه لا يعمد إلى الحقيقة الخارجية فيشرحها بل يعمد إلى شعوره بها فيشرحه على الطريقة الشعرية، فكان أفلاطون بديعًا في مزج الشعر بالفلسفة فخرج قوله حكيمًا جميلًا، ولكنك لا تدري في كثير من الأحيان أين هو حكيم وأين هو جميل؟ ثم لا تعرف أحكمة هو فتركن إلى ظاهر لفظه، أو خيال وشعر فتحاول أن تتبين ما يرمي إليه.
2
أفلاطون.
لم يشهد التاريخ فيلسوفًا قبل أفلاطون أنشأ فلسفة جامعة ونظامًا شاملًا لنواحي الفكر وجوانب الحقيقة؛ إذ كان كل من سبقه ضيق الأفق محدود النظر، إذا تناول بالبحث جانبًا فاتته الجوانب الأخرى؛ ولذا لم تَعْدُ الفلسفة قبل أفلاطون أن تكون مجموعة من آراء متناثرة ونظريات وملاحظات، لم تتسع بحيث تشمل الكون بأسره، ثم أتى أفلاطون فأجال البصر فيما أنتج الفكر من قبله، وأخذ خير ما عند الفيثاغوريين والإيليين، وأحسن ما أنتجه هرقليطس وسقراط، وهكذا قطف أجمل أزهارهم، ثم نسقها جميعًا في طاقة جميلة منسجمة، قدمها للعالم فلسفة جديدة من خَلْقه وإنشائه، فلم يكن حاصدًا لإنتاج غيره وكفى، بل جمع شتى العناصر، وسلط عليها أشعة من ذهنه الجبار فانصهرت كلها في مبدأ جديد أنشأه إنشاءً وابتكره ابتكارًا، ثم اتخذه نواة يبدأ منها السير وأساسًا يقيم عليه البناء.
لا يعرف التاريخ على وجه الدقة متى وُلد أفلاطون، ويُرَجَّح أن يكون ذلك بين سنتي ٤٢٩–٤٢٧ق.م، وهو سليل أسرة أرستقراطية في أثينا قد تحدرت إليه منهم ثروة عريضة أفسحت له من الفراغ ما يتطلبه الاشتغال بالفلسفة.
ولسنا نعلم من أحداث طفولته إلا قليلًا، أما شبابه فقد شهد انقلابًا خطيرًا في أثينا كان له في أفلاطون أثر عميق، فقد نشبت حرب «بيلوبونيسا» بين أثينا وأسبرطة في نحو العصر الذي وُلد فيه أفلاطون، ودارت رحاها في أرجاء اليونان جميعًا، بل قد جاوزت حدود اليونان حتى شملت الفرس، ولبثت مضطرمة أكثر من ربع قرن، وانتهت بعد أن زعزعت دعائم القوة السياسية في أثينا، ولم يعد يُحسب لها حساب أو يُخشى لها بأس، واضطربت خلال أعوام الحرب أمورها الداخلية والخارجية، واختل فيها كل شيء، وزاد الطين بلة أن خطت فيها الديمقراطية إلى أبعد حدود التطرف، فأمسك الدهماء بزمام الأمر، ولما أن فسدت أثينا وتضعضت قواها في الحرب القائمة ساء الظن بنظام الحكم الديمقراطي، ولم تكد تضع الحرب أوزارها حتى وثبت الطبقة الأرستقراطية إلى مناصب الحكم، وأصبح الأمر في يد ثلاثين من الجبابرة الطغاة، وبينهم كثير من أقرباء أفلاطون، فأرادوا أن يطهروا البلاد من فوضى الديمقراطية وعبثها، ولكنهم لم يفلحوا فيما قصدوا إليه من إصلاح، فدعاهم الفشل إلى الإمعان في الظلم والقسوة، وضربوا بأيدٍ حديدية على رءوس الشعب، حتى خَيَّمَ على البلد عهد إرهاب مخيف سادت فيه إراقة الدماء بغير حساب … عهدان من الفوضى متلاحقان، فلا الديمقراطية استطاعت أن تسلك بالدولة سبيلًا سويًّا، ولا الأرستقراطية أمكنها أن تعيد للبلاد نظامها المفقود، وشهد أفلاطون في أعوام شبابه ذينك العهدَيْن، فنقم على الديمقراطية لفشلها من جهة، ولأرستقراطيته من جهة أخرى، ونفر من الأرستقراطية لهذا الرعب الذي ألقته في النفوس، ولعجزها عن أداء ما أخذت نفسها به، فطرح السياسة جانبًا لا يضرب فيها بسهم، واعتزل ينظم الشعر، فأنشأ منه كثيرًا من القصائد والقصص، ثم أحرقها كلها حين اتصل بأستاذه سقراط في سن العشرين، وكان يقوم بأمر تربيته معلم أثيني يُدعى كرتيلوس Cratylus كان يشايع هرقليطس في فلسفته، فلقنها تلميذه من غير شك، ولبث مع معلمه هذا حتى اتصل بسقراط، فأصبح صديقًا له وتلميذًا مخلصًا أمينًا، لازمه في الأعوام الثمانية الأخيرة من حياته، فكانت لتعاليمه وأسلوبه في الحياة أكبر الأثر في أفلاطون، وصار معينه الذي يستقي منه التفكير، ولم يزل أفلاطون معجبًا بأستاذه أشد إعجاب، حتى إنه في أخريات أيامه كتب عن سقراط في حواره، فقدم عنه للعالم صورًا قوية خالدة.
مات سقراط فطوى أفلاطون المرحلة الأولى من مراحل حياته، وهي التي قضاها في أثينا تلميذًا، وبدأ مرحلة ثانية ملأها بالرحلة والسفر، فرحل إلى ميغارا حيث التقى بصديقه وزميله إقليدس الميغاري، وهو يؤسس مدرسته التي قامت على أساس يجمع بين الفلسفة السقراطية وفلسفة المدرسة الإيلية، ولا بد أن يكون أفلاطون قد درس عن صديقه فلسفة بارمنيدس دراسة دقيقة، ثم ترك ميغارا وقصد إلى قورينا فمصر فإيطاليا وصقلية حيث اتصل في إيطاليا بالفيثاغوريين وأخذ عنهم ما كانوا يذيعون من تعاليم، أما في صقلية فقد التحق ببلاط الملك ديونيسيوس Dionysius الكبير ملك سرقوسا، وكان طاغية يحكم بلده حكم ظلم وإرهاب، فلم يكد يقف على تعاليم أفلاطون الأخلاقية، ومناقشاته الفلسفية التي كان يذيعها في صحبه حتى ثارت منه ثائرة الغضب، ومثل به أشنع تمثيل، فعرضه في سوق الرقيق لكي يُباع علنًا بطريقة المزاد، وأوشك أفلاطون أن يقع في الرق لولا أن افتداه رجل من رجال المدرسة القورينائية يُدعى أنيسريس Anniceris، وعاد إلى أثينا بعد سنوات عشر أنفقها في الأسفار.
1
للتواصل معي لأي استفسار أو إضافة..
? @dan_mh ✅
قناة احمد علي على تيليجرام ( شروحات تقنية ، تطبيقات ، أفلام ومسلسلات ، خلفيات ، و المزيد )
Last updated 2 months ago
يرمز تيليجرام إلى الحريّة والخصوصيّة ويحوي العديد من المزايا سهلة الاستخدام.
Last updated 3 months, 1 week ago
- بوت الإعلانات: ? @FEFBOT -
- هناك طرق يجب ان تسلكها بمفردك لا اصدقاء، لا عائلة، ولا حتى شريك، فقط انت.
My Tragedy Lies With Those Things That Happen in One Second And Remain
- @NNEEN // ?: للأعلانات المدفوعة -
Last updated 3 months, 4 weeks ago