رفض عشوائية الحياة هو رفض لجزء كبير من الواقع. شغف الإنسان بالشعور بأهميته ومركزيته جعله غير قادر على تقبل هذه الحقيقة. بالنسبة لمعظم البشر، كل شيء يحدث في هذا الكون له سبب محدد وغاية معينة. هذا الاعتقاد يدفع البشر إلى استنزاف طاقاتهم في محاولة إيجاد الأسباب والتوقعات المتعلقة بكل حدث. نتيجة لهذا النمط من التفكير القائم على السببية والغائية، ظهرت العديد من الفلسفات والمعتقدات الخاطئة التي تتمحور حول إيجاد سبب حدوث الأشياء والهدف من وجودها.

الكثير من هذه الفلسفات حاولت الإجابة عن هذين السؤالين، لكنها اصطدمت في النهاية بحقيقة أنه لا توجد إجابة للعديد من الظواهر. السبب الرئيسي لذلك هو أن هذين السؤالين قد يكونان خاطئين من الأساس. وكالعادة، ينتهي البحث بإحدى العبارتين التاليتين، اللتين لا تقدمان أي إجابة حقيقية، بل هما مجرد هروب من مواجهة الواقع:

1. "حدث بفعل مدروس من قبل شيء ما، لكن علمنا لا يحيط به."

2. "حدث لغاية معينة، لكن علمنا لا يحيط بها. المهم أن تقتنع بأنه لا شيء يحدث عشوائيًا."

للأسف، هذا الكلام غير صحيح. فالعشوائية وغياب الغاية هما مفهومان أساسيان في العديد من الظواهر الكونية. هناك أشياء كثيرة تحدث كنتائج جانبية لأي عملية، ويُطلق عليها "نواتج ثانوية" (By-products). هذه النواتج لا تؤثر على المكونات الرئيسية الداخلة أو الخارجة من التفاعل، ولا حتى على المكونات الوسيطة التي تؤثر عليه، بل هي مجرد نتائج جانبية لتحولات معينة.

على سبيل المثال، عند تسخين إبريق شاي على الحطب، تكون المكونات الرئيسية الداخلة هي الإبريق والماء والحطب والنار، أما المكونات الرئيسية الناتجة فهي الماء الساخن والفحم. المكونات الوسيطة تشمل الحرارة الناتجة عن احتراق الحطب، التي تُنقل إلى الماء لتسخينه. لكن ماذا عن الشحار الذي يعلق على الإبريق؟ أو البخار المتصاعد منه؟ أو حتى النملة التي احترقت لأنها صادف وجودها على الحطب المشتعل؟ هذه الأمور لم تكن الهدف من العملية، ولم تحدث لغرض معين، بل هي إما نواتج ثانوية (By-products) أو أحداث عشوائية نتيجة تزامنها مكانيًا وزمانيًا مع العملية.

وبنفس المنطق، قد يكون وجودنا كجنس بشري، بل وحتى وجود كوكب الأرض، مجرد ناتج ثانوي لعملية كونية ضخمة، لم يكن الإنسان ولا الأرض جزءًا أساسيًا منها. مقارنةً بحجم الكون، نحن أصغر بكثير من تلك النملة التي احترقت أثناء تسخين الإبريق.

شعور العشوائية وغياب الهدف قد يكون جارحًا لمشاعر الكثيرين، بل وحتى صادمًا لمعتقداتهم، لكن الحقيقة تبقى حقيقة. إذا رسب شخص في امتحان، تعرض لحادث، أو حدث له أي شيء، فهذا لا يعني بالضرورة أن هناك غاية أو حكمة خلف ما حدث. من الممكن ببساطة أن يكون ما حدث نتيجة لعوامل عشوائية، دون أي هدف لاحق. ربما كان مجرد "فرق عملة" (By-product) لعملية لم يكن طرفًا أساسيًا فيها، لكنه وُجد ضمنها بسبب توافق زماني ومكاني عشوائي.

من السهل أن يقوم الإنسان بتلاعب ذهني ليرى أن ما حدث له كان مفيدًا بطريقة ما، لأن الحقيقة هي أنه لا يوجد شيء سيئ أو جيد بشكل مطلق، فكل شيء يعتمد على زاوية النظر. ومع ذلك، قد يكون الحدث الذي نظنه إيجابيًا بسبب نتائجه الحالية أكثر فائدة لو حدث بطريقة مختلفة، أو ربما لو لم يحدث على الإطلاق.

التفاؤل جميل، لكنه مجرد مسكن للألم، وليس علاجًا حقيقيًا. الاقتناع بعشوائية المسببات وغياب الغاية يجعل الإنسان أكثر وعيًا بحجمه الحقيقي، وأكثر قدرة على التعامل مع ما يحدث بواقعية. كلما اعتمدنا على المجهول في تفسير حياتنا، كلما زاد انفصالنا عن الواقع.

لكن هذا لا يعني الاستسلام. ليس من الضروري أن تكون مركز العملية الكونية أو ناتجًا رئيسيًا لها حتى يكون لما يحدث معك أهمية. النواتج الثانوية، رغم أنها ليست رئيسية في العملية الكبرى التي أنتجتها، قد تكون مكونات أساسية في عمليات أخرى تتحكم بها. وبما أننا قد نكون ناتجًا ثانويًا وعشوائيًا عن تفاعل كوني هائل، إلا أننا ندخل بدور رئيسي في تفاعلات أخرى. لذلك، من المهم جدًا تقبل عشوائية وغياب الهدف في التفاعل الذي أنتجنا أو أثر فينا، والتركيز على السببية والغاية في التفاعلات الصغيرة التي يمكننا التحكم بها، لأننا نحن مكوناتها الأساسية.

نيتشه & Tool:-

تلتقي الفلسفة بالموسيقى في تقاطع مذهل بين أفكار نيتشه، كما وردت في كتاب "في جينيالوجيا الأخلاق"، وألبوم Lateralus لفرقة Tool. كلا العملين يسعيان إلى كشف القيود المفروضة على الإنسان، عبر رحلة من الفوضى، الألم، وإعادة اكتشاف الذات.

يرى نيتشه أن الأخلاق التقليدية تكبل الروح، وهو نقد يتردد صداه في أغنية Schism التي تصور الصراع الداخلي عند مواجهة القيم الموروثة. لكن التحرر لا يتحقق بالرفض فقط، بل بإعادة بناء الذات، وهو ما تؤكده Lateralus، حيث تمتزج الفوضى والنظام في حركة حلزونية تعكس طبيعة الحياة المتغيرة.

الألم، كما يراه نيتشه، ليس عائقًا بل جزء أساسي من التحول، وهو ما تجسده Parabola، التي تقدم المعاناة كجسر نحو وعي أعمق. أما البحث عن الذات، فهو عملية مستمرة لا تنتهي، كما في Reflection، التي تدعو إلى تجاوز الأنا والانفتاح على التحول الدائم.

في النهاية، يبدو Lateralus امتدادًا حديثًا لفكر نيتشه، حيث تتحول الفلسفة والموسيقى إلى مرآة تدفع الإنسان إلى مواجهة نفسه وإعادة اختراعها. سواء كنت تقرأ نيتشه أو تستمع إلى Tool، فإنك لا تجد إجابات جاهزة، بل أسئلة تقودك إلى التأمل والتغير.

رابط الألبوم كامل

هل يمكن التخلص من التحيز للغائية؟

الإجابة هي نعم، وهذا يتم من خلال الاكتساب العلمي والمعرفي، حتى لدى الأطفال. فقد أظهرت دراسة (المصدر 6) أن التفسيرات الغائية لدى الأطفال يمكن تقليلها بالتعليم الموجه. في الدراسة، تم استخدام كتب قصصية مصورة للأطفال حول الانتقاء الطبيعي لتعليمهم مفاهيم بعيدة عن التفسيرات الغائية. عندما سُئل الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 10 سنوات عن سبب امتلاك الزرافة لرقبة طويلة، أجاب معظمهم: "لكي تصل إلى الأوراق الأعلى". لكن الدراسة أجرت تجربة شملت أطفالًا تتراوح أعمارهم بين 5 و8 سنوات، حيث قدمت لهم قصة عن حيوان خيالي يشبه آكل النمل.
في القصة، كانت هناك مجموعتان من الحيوانات: إحداهما تملك خراطيم طويلة ورفيعة، والأخرى خراطيم قصيرة وسميكة. مع تغير المناخ وانتقال الحشرات إلى تحت الأرض، نجحت الحيوانات ذات الخراطيم الطويلة في البقاء لأنها استطاعت الوصول إلى الحشرات، بينما نفقت الحيوانات ذات الخراطيم القصيرة. بالتالي، نجت فقط الحيوانات التي لديها خراطيم طويلة وورثت صفة الخراطيم الطويلة إلى أبنائها.

بعد قراءة القصة، طُرحت على الأطفال أسئلة حول حيوانات خيالية جديدة. لاحظ الباحثون أن غالبية الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و8 سنوات، والذين كانوا يميلون في البداية إلى التفسيرات الغائية، بدأوا يفسرون التغيرات بناءً على مفاهيم التكيف والتكاثر بدلاً من الغائية المشوشة.
والأمر اللافت أن هذا التعلم استمر لفترة طويلة؛ فعندما سُئل الأطفال أسئلة مشابهة بعد ثلاثة أشهر عن حيوانات غير مألوفة، استمروا في تفسير التغيرات بناءً على التكيف والتكاثر، مما يدل على أن التعليم كان فعالًا ومستدامًا.
الخلاصة:-
يمكن التخلص من التحيز للتفسيرات الغائية عبر تعزيز الفهم العلمي والمعرفي. إن كنت تعتقد أن قوانين الكون قد وُجدت "لكي" تدعم الحياة، ربما عليك إعادة التفكير: الحياة نشأت بسبب قوانين الكون كما هي، وليست القوانين مخصصة لخلق الحياة.
نصيحة أخيرة: فكر مجددًا، وابحث عن إجابات علمية عميقة بدلًا من الاعتماد على التفسيرات الغائية البسيطة.

‏لا تقع أبداً في حب معاناتك، لا مجد في كونك تعاني.

- سلافوي جيجك

‏كان يخطط للانتحار كمن يخطط لنزهة.

- يوكيو ميشيما

منذ فترة وإلى الآن، لا أقول مطلقا ما أؤمن به، كما لا أؤمن مطلقا بما أقول. وإذا أفلتت مني بعض الحقائق من آن لآخر، فإنني أخفيها بين طيّات العديد من الأكاذيب تجعل من الصعب التعرف عليها.

- ميكيافيللي

**دولة الفقيه:-

شاهدت آخر حلقة من برنامج "البشير شو" والتي تحمل عنوان "دولة الفقيه". أنا أحب أحمد البشير كثيرًا ومتابع له من اكثر من سبع سنوات، فهو رجل شجاع وأعتبره طفرة مهمة، حيث أصبح شخصية مؤثرة جدًا على الشارع العراقي. ولكن في النهاية يبقى كوميديًا، والناس تضحك أكثر مما تفكر. تحدث السيد أحمد البشير عن شكل قديم من العلمانية، وهي الفكرة التي تنص على أن الدولة يجب أن تبقى على مسافة واحدة من كل الأديان، مع احترامها ودعمها أحيانًا (كما يحدث في الدول الاسكندنافية أو ألمانيا كذلك)، حيث يتم دعم مراكز العبادة ماليًا من قبل الدولة، ولكن بشرط أن يبقى الدين بعيدًا عن الفضاء العمومي، ولا تُستخدم الرموز الدينية في مؤسسات الدولة على أساس أنها حيادية، والدولة بلا دين. هذه فكرة قديمة، ومع الأسف، فإن العلمانية مثل أي فكر آخر تخضع للتغيير والتطور، فلا شيء يبقى على حاله.

الإيديولوجيات، مهما كانت، هي منظومات فكرية تسعى بقوة للوصول إلى الحكم. الأفكار هي ما يصنع الواقع والبشر. حتى الأديان، مثل المسيحية التي تخلو من فكرة الحكم المباشر، شهدت فترات كان فيها البابا يحكم أوروبا بالكامل عبر الكرسي الرسولي. لا توجد فكرة لا تسعى إلى تحقيق ذاتها عبر السلطة. إذا كانت الإيديولوجيا تهدف إلى الحكم، فإن السلطة لهذه الإيديولوجيا تمثل هويتها.

فكرة ترك الحسينيات والمساجد والكنائس دون رقابة أو سيطرة أو محاسبة تُعتبر كارثة. نجد الآن في ألمانيا، وهي دولة كانت متسامحة جدًا في الشأن الديني وتدعم دور العبادة ماليًا، أنها اكتشفت خطأ هذه السياسة عندما تحولت الحسينيات والمساجد إلى أوكار إجرامية ومراكز لتبييض الأموال والمتاجرة بكل شيء. تم إغلاق "المسجد الأزرق" في ألمانيا، وهو مركز شيعي، واليوم أغلقت العديد من المساجد السنية.

العلمانية هي أيضًا فكرة تخضع لسلطان التطور والتغير. فكرة أن الدين يجب أن يكون متاحًا ويمارس بحرية من قبل الشعب انتهت بعد أحداث 2001 وضرب الأبراج. نحن أمام رجال دين لهم طموح في حكم الدولة، ولديهم سلاح قوي يسمى الدين. لهذا السبب تجد أحيانًا أن الفاسدين أخلاقيًا في العراق يدعمون الدولة الدينية قبل الأخيار. قد تجد عاهرات وقوّادين ومدمني مخدرات يبكون على دولة دينية، لأن للدين تأثيرًا عاطفيًا هائلًا، فهو فكرة تخاطب الحواس ولا تخاطب العقل.

فكرة إبعاد الدين عن الفضاء العمومي مع السماح له في أماكن مخصصة له، أصبحت قديمة. نحن الآن في صراع بين إيديولوجية الدولة والإيديولوجية الدينية، ولذلك نجد أن الصين قد منعت ممارسة الشعائر الدينية، وفي طاجيكستان، وهي دولة وسط آسيوية، تم منع تربية اللحية وارتداء الحجاب تمامًا. الأمر لا يتعلق فقط بمنع المظاهر الدينية، بل نحن أمام فكرة تريد أن تحكم وتزيح فكرة الدولة نفسها، لأنها تؤمن بأن الدين هو الوطن، وكل المسلمين إخوة.

في العراق اليوم، لديهم ثلاث مرجعيات دينية صرحت بوضوح، وهي مرجعيات السيد السيستاني، والبشير النجفي، والمدرسي، بأنهم لا يريدون القوانين العلمانية، بل يطالبون بشرع الله. يتبع هؤلاء الملايين، وبإشارة منهم يمكن أن يقلبوا الواقع العراقي رأسًا على عقب. المرجعيات الدينية التي كانت تحكم عبر وكلائها قررت الآن أن تحكم بنفسها. نفس التوترات حدثت أيام الشيرازي وفتوى منع التبغ في إيران قبل أكثر من مئة عام، حتى جاء الخميني وحقق فكرة الحكم الرباني.

في النهاية، نحن لسنا أمام إيديولوجيا تعبّدية روحية تهدف إلى التواصل مع الله فقط، بل أمام إيديولوجيا تسعى إلى الحكم. نحن الآن في مفترق طرق، ويُقال إن الشيطان يجلس في وسط هذه المفترقات، في إشارة إلى خطورة المواقف المتعارضة، حيث يقف الإنسان في المنتصف ولا يعرف أي طريق يسلك.**